مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

قراءة في فكرِ صدّام (تابع)

          ثمة لغز محيّر آخر يتعلق بغزو صدّام الكويت هل كان قرار الغزو وليد اللحظة، أم كان نية مبيتة وتخطيطاً مُتقَناً؟

          من الواضح أن نقمة صدّام على العالم بشكل عام، وعلى الكويتيين بشكل خاص، ظلت تتفاقم على مدى شهور عِدّة. كان يعاني ضغوطاً جسيمة جعلته عصبي المزاج إلى أبعد الحدود ويثور لأتفه الأمور. ونحن لا نعلم في الحقيقة ما الذي فَجّر الأحداث. وسوف نظل نجهل حقيقة الأمر ما لم يخبرنا بها صدّام نفسه! أمّا من جهتي، ولأنه لا يوجد إلا اليسير من الدلائل التي تشير إلى تخطيط عراقي مُتقَن، فإنني أميل إلى الاعتقاد أن قرار صدّام باستخدام القوة أخذ يختمر في ذهنه تدريجياً خلال الأشهر الخمسة أو الستة التي سبقت الغزو، وفي نهاية شهر يوليه لم يعد قادراً على كبح جماح نفسه أكثر من ذلك.

          ومن الدلائل اليسيرة التي تُرجِّح وجود نية مبيتة لغزو الكويت القصة التي رواها أحد المسئولين في شركة النفط الكويتية، وهي أن العراق بناء على اتفاقية مع الحكومة الكويتية، أرسل قبل الغزو بنحو ستة أشهر مجموعات عدة من العراقيين إلى الكويت ولعلَّهم كانوا من رجال الاستخبارات. أرسلهم لدراسة التكنولوجيا المتقدِّمة في معامل تكرير البترول ومحطات الطاقة والاتصالات والبنوك وما شابه ذلك في المجالات التي ادعت العراق تخلفها فيها نتيجة حربها الطويلة على إيران. انضمت إحدى المجموعات المكوَّنة من أربعة عراقيين إلى شركة النفط، ومكثت ثلاثة أشهر متنقلة بين المرافق البترولية، مكتسبة خبرة تشغيل المعدات ولوحات التوزيع والأجهزة الأخرى. وبعد الغزو بيومين أو ثلاثة أيام، كانت تلك المجموعة نفسها تقتحم مكتب رئيس الشركة، وتدير مرافقها بأوامر من القيادة العسكرية العراقية. فلم تكن زيارتهم التدريبية سوى زيارة تجسسية!

          وهناك بعض الشواهد، بالمثل، التي تستبعد وجود تخطيط دقيق مسبق للغزو. من ذلك مثلاً أن صداماً لم يتصل قبل الغزو بأعضاء المعارضة الكويتية، الذين كانوا على خلاف حادّ مع أسرة الصباح. ومما يذكر هنا، أن المعارضة الكويتية كانت تطالب بإعادة مجلس الأمة، الذي عُلقّت أعماله منذ عام 1986 أثناء الحرب العراقية - الإيرانية. ونجحت المعارضة الكويتية في استقطاب آلاف المواطنين المؤيدين لمطالبها في الديوانيات الأسبوعية التي كانت تعقد في المنازل. وهذه الديوانيات من التقاليد الاجتماعية الكويتية الفريدة، فالرجال يجتمعون في منزل أحدهـم بالتناوب، يحافظون على الصلة بينهم، من جهة، ويتبادلون الآراء، من جهة أخرى. وتكتسب هذه الظاهرة في أيام الأزمات أهمية سياسية خاصة. وقد اعتقل عدد من أعضاء المعارضة السياسية أثناء حضورهم تلك الديوانيات بعد مصادمات مع رجال الشرطة.

          ولو كانت لدى صدّام خطة مسبقة لغزو الكويت لوجد بالتأكيد متسعاً من الوقت للاتصال بأعضاء المعارضة، والإعداد لتشكيل حكومة مؤقتة لترأس "المحافظة" الجديدة. فخلال الحرب العراقية - الإيرانية، استبد القلق بصدام من احتمال قيام إيران بتحريض مؤيديها في جنوب العراق على تشكيل حكومة مؤقتة في البصرة ومن ثَم دعوة الإيرانيين للتدخل. كان ذلك هاجسه الأول في معركة البصرة فكيف غاب عن فكره هذا الأمر في الكويت إن كان، بالفعل، يُعد للهجوم عليها منذ مدة طويلة؟ فصدام لم يقدم على أي شي من هذا القبيل، على حد علمي، ولم يحاول الحصول على تأييد فئة البعثيين المؤيدين للعراق في الكويت وعندما احتاج إلى تأسيس "حكومة عميلة" في الكويت بعد الغزو، لم يجد كويتياً واحداً يقبل التعاون معه.

          وربما قال قائل إن صداماً لم يتصل بالمعارضة الكويتية حفاظاً على سرّية خططه، ولأنه توقع أن يكون استيلاؤه على الكويت عملية سهلة يقبلها معظم الكويتيين عن طيب خاطر.

          ومن جهة أخرى، يشير موقف صدّام من الأمريكيين إلى أنه تصرف بناء على نزوة مفاجئة. وكما أسلفت قبل قليل، كان مقرراً أن تعود السفيرة جلاسبي بردّ الرئيس بوش على رسالة صدّام وفي الوقت نفسه، كان محدداً أن يصل إلى بغداد في 8 أغسطس ستيفن سولارز stephen j.solarz لإجراء محادثات مع صدّام كان سولارز حينذاك نائباً ديموقراطياً من نيويورك ويتمتع بنفوذ واسع في الكونجرس الأمريكي. أمّا صدّام فكان تواقاً إلى فتح حوار مع واشنطن وهذا أمر كان يسعى إليه قبل كل شيء. ولكنه، مع ذلك، لم ينتظر وصول المبعوثين الأمريكيين قبل أن يُقدم على خطوته القاتلة. إذ تملَّكه الحنق ونفد صبره تماماً. وهذا الموقف أيضاً ينفي وجود خطة مبيتة لتصميم سابق. ولكن، من ناحية أخرى، ربما كان تحديد الموعدين مع المبعوثين الأمريكيين خدعة قَصَد منها صرف انتباه العالم، وتحقيق المفاجأة في غزوه الكويت.

          ومجمل القول، كما يبدو لي، أن أكثر التفسيرات احتمالاً هو أن صداماً ظل على مدى أشهر عدة يفكر ملياً في تنفيذ حركته ضد الكويت لكن أحداث يوليه أعمت بصيرته، وملأته حنقاً وغضباً، فاندفع في غروره بتهور شديد. ولعل "السيناريو" الذي تخيله صدّام في ذهنه كان كالآتي: سيقتحم الكويت ويقضي على الأسرة الحاكمة، ويشجع أحزاب المعارضة على إعلان صداقتها وتأييدها للعراق، ثم ينسحب، تاركاً خلفه حكومة عميلة تأتمر بأوامره. وتصوّرَ صدّام أن عرضاً شاملاً للقوة سيردع أي تدخل خارجي. وبذلك، يكون قد حقق ما يريد دون قتال!

سابق بداية الصفحة تالي