مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

الجيوش تسير على بطونها (تابع)

          ولعل أكبر عقبة واجهتنا في إسناد قوات التحالف، تمثلت في نقص وسائل النقل. إذ لم يجلب أي طرف من أطراف التحالف معه ما يكفي من العربات، حتى إن بعض القوات لم تحضِر معها عربة واحدة. ومن دون إمكانات المملكة ومساندتها، لتعذَّر نقل الرجال والعتاد بالسرعة الكافية لمسافات طويلة تمتد من الموانئ والمطارات إلى المواقع المتقدِّمة. أفرغت الولايات المتحدة وحدها حمولة 600 سفينة من المعدات وحمولة أكثر من 10 آلاف طائرة. وهذان العنصران ـ الكمُّ والحجم ـ من العتاد يعكسان دلالة التحدي الضخم الذي واجهناه في النقل من قِبَل القوات الأمريكية وحدها. ولمّا كانت إمكانات النقل في قواتنا المسلحة محدودة، فقد وجدنا الحل في استئجار العربات التجارية التي يملكها القطاع الخاص السعودي. وأعتقد أن وحدة المساندة بقيادة القوات المشتركة تعاقدت على ما لا يقلّ عن 22 ألف عربة، ومع أكثر من 4000 سائق مدني.

          ضمَّت هذه العربات كل نوع يمكن تصوُّره من ناقلات ثقيلة عملاقة لنقل الدبابات، وشاحنات مبردة لنقل الثلج وتوزيعه على القوات التي كانت تعاني القيظ في الصحراء، وصهاريج المياه والبترول، وشاحنات مسطحة، وجرافات، ومقطورات، وحافلات، وعربات مجهزة متنقلة لضباط هيئة القيادة، وعربات الجيب، وسيارات عادية، وآلاف الشاحنات المتعددة الأغراض. وخطرت لي فكرة أظنها كشفت لي عن عدد العربات والشاحنات التجارية الموجودة في المملكة كلها. إذ أعلنتُ لأصحاب العربات الخاصة، وليس الشركات، أننا سندفع قيمة عربة جديدة لكل عربة مستعملة يقبل مالكها بيعها لنا، فلم يكن هناك متسع من الوقت للمساومة. وما أسرع ما تدفقت، من جميع أنحاء المملكة عروض العربات والشاحنات على إمدادات وتموين قيادة القوات المشتركة. وبهذا، استطعنا الحصول على مئات الشاحنات. وكنّا نشترط ونصرّ على أن تكون جميعها في حالة جيدة ومزوَّدة بكامل لوازمها.

          قَدِمَت القوات المصرية والسورية على جناح السرعة، ولم تصطحب معها الكثير من العتاد سوى أسلحتها وذخيرتها وعدد قليل من العربات. لذلك كنا في حاجة إلى 3000 شاحنة على الفور، لتصبح هذه القوات قادرة على التحرك. وبدأنا برنامجاً ضخماً للمشتريات في جميع أنحاء العالم، لإسناد الفِرق المصرية والسورية. ولم يقتصر البرنامج على شراء الشاحنات فحسب، بل شمل كذلك شراء الخيام والمولدات والجرارات والمطابخ الميدانية المتنقلة والمواد الغذائية ودورات المياه ووحدات الاستحمام والمعدات الهندسية وآلاف المواد الأخرى اللازمة. واحتاجت تلك المشتريات إلى أموال طائلة، كما استغرق تأمينها وقتاً طويلاً. زوَّدْنا السوريين بنحو 2800 عربة. ولَمّا كانت القوات المصرية ضعف السورية، فقد احتاج المصريون إلى عدد أكبر من العربات. كنت أريد أن يدرك القادة المصريون والسوريون أن لهم عندي الأولوية القصوى، حتى لو استدعى الأمر تحويل جزء من إسناد قواتي للوفاء باحتياجاتهم. وتقديراً من المملكة لدورهم ووقوفهم معنا في خندق واحد، أصدر الأمير سلطان تعليماته أن يصطحب المصريون والسوريون، عند عودتهم، آلاف العربات والأنواع المختلفة من المعدات.

          كان لقوات التحالف، التي وفدت لمساندتنا، طلبات كثيرة مختلفة. فعلى سبيل المثال، اعتمدت الوحدات الأمريكية الأولى، التي وصلت المملكة، علينا اعتمادا كاملاً في النقل والإسكان والمياه، اعتماداً دام طوال مراحل الأزمة، وفي كل المتطلبات الأخرى تقريباً ( بما في ذلك العباءات السوداء التي كانت المجندات يرتدينها خارج أوقات العمل، كي يصبح وجودهن أَكثر قبولاً لدى مواطنينا وتماشياً مع عاداتنا وتقاليدنا ). وبعد ذلك بفترة، تولى الأمريكيون شؤون إمداد وتموين قواتهم، مع أن حاجتهم إلى التزوُّد بالوقود ووسائل النقل بكميات هائلة ظلت قائمة، شأنهم في ذلك شأن البريطانيين والفرنسيين.

          كذلك، اعتمد بعض القوات في التحالف علينا اعتماداً تاماً في تأمين كل متطلباتها، تقريباً، خلال الأزمة. فكان علينا إطعامها منذ أن وطئت أقدام أفرادها أرض المملكة. فبعض تلك القوات جاءت دون إمكانات على الإطلاق، مما اضطرنا، في بعض الحالات، إلى تزويد رجالها بالأسلحة الشخصية.

          واجهتنا مشكلة صعبة في توفير الناقلات الثقيلة العملاقة، فالأمريكيون أنفسهم كانوا يعانون نقصاً فيها، إذ لم يحضروا معهم سوى 500 ناقلة، في حين أنهم كانوا في حاجة إلى ثلاثة أمثال هذا العدد. واستطاعت المملكة تزويدهم بأكثر من 1000 ناقلة من هذا النوع، استأجرناها من شركات النفط والبناء في المملكة، كما أحضرنا المزيد منها من أوروبا. تفاوض البنتاجون في معظم الصفقات خارج المملكة، ولكننا، نحن، الذين كنّا ندفع الثمن. كذلك، زوَّدنا البريطانيين بـ 250 ناقلة ثقيلة، كما زودنا المصريين والسوريين بـ 500 ناقلة أيضاً. ويذكر أن الحافلات التي نقلت الجنود إلى مواقع انتشارهم قامت بما ينوف على 3000 رحلة.

          عملت على مد مرافق الصيانة إلى شرقي البلاد وشماليها، لمواجهة متطلبات ذلك العدد الهائل من العربات. واتخذت الترتيبات لكي يساهم 200 ميكانيكي وعامل صيانة مصري في تعزيز قدراتنا الفنية، في مدينة الملك خالد العسكرية وفي الطائف. وأدّت كثافة الحركة على الطرق المتجهة شمالاً إلى اختناقها بشاحنات الإمداد التي كانت تسير ولا يفصل بينها سوى ثوان معدودة. أخبرني الفريق باجونيس أنه ذهب مرة ليتفقد " نقطة السيطرة على التحركات " على الطريق الشمالية، حيث كانت الشاحنات تمر بمعدل 18 شاحنة في الدقيقة، وأنه لم يتمكن، لكثافة الحركة، من عبور الطريق إلى الجانب الآخر إلا بطائرته العمودية!

          لقي عدد غير قليل من السائقين حتفهم في حوادث مرورية، لا سيما على طريق " التابلاين " الضيقة التي ليس لها كتف صلبة على جانبها، فمن مجموع الخسائر الأمريكية في الأرواح الذي بلغ 293 قتيلاً ( في المعارك أو في غيرها )، لقي عشرات منهم حتفهم في حوادث المرور.

          وخلال عمليات الاستعداد للحرب البرية، تحرك تشكيلان أمريكيان هائلان، هما الفيلق السابع والفيلق الثامن عشر، مسافة 500 كيلومتر، و800 كيلومتر على الترتيب، لكي يتخذا مواقعهما الهجومية، استعدادا لتنفيذ عملية عاصفة الصحراء. شملت التحركات الأمريكية هذه، مع تحركات قوات التحالف الأخرى انتقال 300 ألف جندي، و60 ألف عربة ذات عجلات، و6000 دبابة وعربة مدرعة مجنزرة، وأكثر من 20 ألف حاوية. لذلك، بذلنا جهوداً جبارة لتأمين الإسناد الضروري لتحرك القوات الأمريكية والقوات الأخرى. وتطلب الأمر أن ننقل جزءاً كبيراً من نقاط وقواعد الإمداد والتموين من الشمال والشرق إلى الغرب، وأن ننشئ قواعد إسناد ونقاط توزيع جديدة.

          وعلى الرغم من الإسهام الهائل الذي قدَّمته المملكة إلى قوات التحالف، والعمل الدؤوب والجهد العظيم الذي بذله ضباط الإمداد والتموين، فمن المؤسف حقاً ألا يعترف كثير من الكتابات الغربية التي قرأتها عن الحرب بتلك الحقيقة. ولا أبالغ إذا قلت إن الولايات المتحدة لم تلقَ في تاريخها العسكري كله من المساندة ما لقيته من المملكة خلال حرب الخليج، كما اعترف بذلك شريكي في القيادة، الفريق أول شوارتزكوف، أثناء الاحتفال البسيط الذي أُقيم في الرياض، وتبادلنا فيه الأوسمة بعد انتهاء الحرب. إذ قال آنذاك:

"منذ أن وطأت قدمُ أول جندي أمريكي أرض المملكة، بدأنا بتلقي المساندة 100 % من السعوديين. كنّا نحصل منهم على طعامنا ومياهنا ووقودنا ووسائل انتقالنا وجميع متطلباتنا الأخرى. ولْيعلم الجميع أن ما حققناه معاً يعتبر إنجازاً عسكرياً ضخماً، ما كان ليتحقق لولا التعاون الكامل من قِبَل المملكة العربية السعودية .
فالموانئ التي نزلت فيها معداتنا هي موانئ سعودية، والمطارات التي انطلقت منها غاراتنا الجوية كانت في معظمها مطارات سعودية.

إن ما لقيناه من مساندة الدولة المضيفة هنا، لا يمكن أن نحظى به في أي مكان آخر، ولولا هذه المساندة من الدولة المضيفة، لاستغرق تنفيذ أية عملية هجومية شهوراً طويلة، إن لم يكن سنوات. لذلك، أعتقد أن هذا هو الوقت المناسب لكي نعترف بإسهام المملكة العربية السعودية في هذا النصر المؤزَّر".

          ومع أنني أقدِّر لشوارتزكوف عرفانه بالجميل على الصعيد الخاص، فكم كنت أتمنى لو أنه ذكره علانية في كتابه!

          عقِب انتهاء العمليات العسكرية، اتضح أنه كان لدينا أكثر بكثير مما كنّا نحتاج إليه لتنفيذ المهمة المطلوبة، ليس فقط من الإمدادات والتموين، بل من القوات المقاتلة والدبابات والطائرات أيضاً. ولَكَمْ دهشت من المبالغة التي صاحبت العملية! لقد بالغت القيادة الأمريكية في قدرة صدّام وادعت أن جيشه هو "رابع أكبر جيش في العالم"، وكان الهدف من تلك الدعوى، دون شك، هو خداع صدّام وجعله يركن إلى إحساس زائف بالأمان. لكن القيادة الأمريكية، في نهاية الأمر، بدأت هي نفسها تصدق ادعاءاتها. ولا غرو، أن قوات التحالف احتاجت إلى فترة من الوقت قبل أن تدرك مدى الضعف في بنْية كثير من فِرَق صدّام فإذا نظرنا إلى عدد الفِرق في حد ذاته، وجدنا أننا أمام جيش هائل! ولكن إذا تحققنا بشكل دقيق من التعداد الصحيح لكل فِرقة، يتلاشى على الفور جزء كبير من هذا الجيش.

          في إحدى المراحل قرر شوارتزكوف، بناء على المعلومات الواردة من الاستخبارات حول قوة العراق أن دباباته m1 غير قادرة على مواجهة دبابات صدّام t-72.  لذلك، قرر أن يستبدل بها أحدث الدبابات الأمريكية إبرامز m1a1، بعد تعديلها. فوصلت هذه الدبابات من ألمانيا خضراء اللون، وكان لا بد من إعادة طلائها بألوان الصحراء، وتزويدها بدرع إضافية. لذلك قَدّمنا إلى الأمريكيين المستودعات اللازمة لإجراء هذه التعديلات. وأُرسلت الدبابات الجديدة إلى جميع الوحدات المدرعة، وأعيدت الدبابات الأولى من نوع m1. وتجمَّع في وقت واحد أكثر من 700 دبابة m1 في الميناء، وهي في أتم حالات الاستعداد. كذلك استبدلت قذائف من عيار 120 مم التي تستخدمها دبابات m1a1 بقذائف دبابات m1 من عيار 105 مم. وعلمت، فيما بعد، أنه تم نقل 220 ألف قذيفة من عيار 120 مم إلى أرض المعركة، أطلقت منها 3600 فقط، كانت كافية لإنزال الهزيمة "برابع أكبر جيش في العالم"! فهل كان هذا القرار الباهظ التكاليف بإحضار الدبابات الجديدة القوية، وتلك الكميات الهائلة من الذخيرة مبنيا على تقديرات خاطئة لقوة العراق؟ أم كان ناجماً عن فشل أجهزة الاستخبارات؟ أم كان، مرة أخرى، بسبب إفراط شوارتزكوف في الحذر؟

          في شهر ديسمبر 1990، أصدرت توجيهاً بأن تكون البنْية الأساسية للإمداد والتموين بكاملها جاهزة في أماكنها يوم 15 يناير ( وهو آخر موعد حدده قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 678 الصادر بتاريخ 29 نوفمبر 1990، والذي يجيز استخدام كل "الوسائل الضرورية" ضد العراق إن لم يمتثل لإرادة المجتمع الدولي حتى ذلك الموعد ). ولكن مركز الاهتمام، في ذلك الوقت، كان قد تحول إلى خيار الحرب. واكتسب التخطيط لها الأولوية قبل وقت غير قصير. وواصل ضباط الإمداد والتموين عملهم البطولي في الإعداد لهذه الحرب.

سابق بداية الصفحة تالي