مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

الفصل الثامن عشر

التخطيط للحرب بالاشتراك مع قوة عظمى

          إن لم يكن هناك بد من خوض حرب، فالأفضل أن يكون حليفك فيها قوة عظمى. فوجود مثل تلك القوة الجبارة إلى جانبك أمرٌ يبعث على الثقة والاطمئنان. بيد أن تحالفاً على هذا النمط لا يخلو من السلبيات المزعجة، فبسبب عدم التكافؤ في حجم القوات تصبح العلاقة، داخل إطار التحالف، غير متكافئة أيضاً. ولا مناص من أن تحاول القوة العظمى أن تستأثِر بالقيادة، وتُصرّ على أن تجعل الآخرين تابعين لها، فتتخذ القرارات بمفردها وتحتكر المعلومات الاستخبارية التي تتوافر لديها، ولا ترضى إلاّ بالسيطرة التامة، من دون تدخل من أحد، على دبلوماسيتها وإستراتيجيتها وأسلحتها ذات التقنية العالية. وكلما اقتربت نُذُر الحرب، ظهرت تلك الجوانب السلبية أكثر جلاءً، فيجد الحليف الأصغر نفسه مضطراً إلى مدَّ الخُطَى، بكل ما أُوتِىَ من قوة، كي لا يتخلّف عن رَكْب حليفه الأقوى.

          وإن كنت أمثِّل الحليف الأصغر إبّان أزمة الخليج، لكني لم أكن أرضى بالتخلّف عن الركب، ولا بالموافقة على كل رغبات حليفنا الأقوى وقراراته وخياراته الإستراتيجية دون نقاش. كانت المملكة، بصفتها البلد المضيف، في غاية الأهمية للتحالف. فلولاها وما قدمته من تسهيلات ودعم مالي وسياسي ما كان لتلك الحرب أن تُشن. لذلك، كان لنا بعض جوانب القوة التي حرِصنا على توظيفها لمصلحتنا. فتم الاتفاق على أحقِّيتنا في المشاركة في التخطيط للحملة، وألاَّ تتم أية عمليات عسكرية دون موافقتنا المسْبقة. ولكن النظرية شيء والواقع شيء آخر. لذا، كانت إحدى مهامي الصعبة هي العمل على وضع تلك الاتفاقية موضع التنفيذ.

          كان الطابع المميز لعلاقتي بشوارتزكوف هو سعيي الدءوب لأنتزع منه المعلومات الوثيقة الصلة بمهمتي. ولجأتُ إلى أساليب شتى لأجعله يبوح بما لديه، فكنت أفاجئه بمعلومات من عندي حتى أستدرجه إلى تفنيدها ومناقشتها، وأحياناً أتساءل عن تصرفاته حتى يشرحها ويبرزها. وفي أحيان أخرى، أطلب منه مباشرة أن يحيطني علماً بمجريات الأمور. كنّا نقضي الساعات الطوال معاً في الأخذ والرد في جو من الصداقة والود. وبطريقة أو بأخرى، كنت حريصاً كل الحرص، على أن ألمّ بكل جوانب تفكير حليفنا القوي حتى أتمكن من تحقيق مصالح بلدي وحماية استقلاله.

          لم يكن شوارتزكوف، هو الآخر، حرّاً في ما يفعل. كان عليه أن يرفع التقارير إلى قيادته السياسية والعسكرية، ويتلقى منهما التعليمات والتوجيهات. إذ لم يكن، في حال من الأحوال، صانع القرار الأوحد في الجانب الأمريكي، مما زاد من تعقيد مهمتي في استقصاء المعلومات. كانت لرؤسائه في واشنطن اليد الطولى في كل أمر من أمور الحملة العسكرية. فالتخطيط الإستراتيجي، والخطة العامة، والجداول الزمنية، كانت تُصاغ وتُعَد في البنتاجون من قِبَل الفريق أول كولين باول ورئيس هيئة الأركان الأمريكى وهيئة أركانه القوية البالغ عددها 1600 ضابط، بمشاركة ديك تشيني، وزير الدفاع، وبرنت سكوكروفت brent scowcroft مستشار الأمن القومي، وأركانه. وبطبيعة الحال، كان الرئيس الأمريكي يتولى رسم الأهداف العامة ويعتمد الخطط في شكلها النهائي. ومن بين هؤلاء جميعاً كان للفريق أول كولين باول دوره البارز في سير الأحداث.

          وقد ذكر أكثر من مراقب عسكري أن من أبرز سمات حرب الخليج، تلك الصلاحيات التي مارسها الفريق أول كولين باول بصفته رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية. وترجع تلك الصلاحيات إلى التعديلات والإصلاحات التي نص عليها قانون "جولدووتر - نيكولاس لإعادة تنظيم شؤون الدفاع" الذي صدر عام 1986. وبمقتض ذلك القانون، تمت أكبر عملية لإعادة التنظيم في البنتاجون منذ الحرب العالمية الثانية، فتم تنظيم التسلسل القيادي، وقُلّصت صلاحيات رؤساء أركان الفروع الرئيسية للقوات المسلحة الأمريكية، ومُنِح رئيس هيئة الأركان المشتركة صلاحيات أوسع. فأصبحت له السلطة الكاملة، للمرة الأولى، على الجهاز العسكري برمَّته، فاختفت الضغوط التي كان يمارسها الكونجرس أو تقلَّصت إلى حدٍّ كبير، كما اختفت كذلك المساومات بين الفروع المختلفة التي كانت من قَبْل، حجر عثرة في طريق قرارات رئيس هيئة الأركان المشتركة.

          نجح باول، وهو سياسي مخضرم، في الاستفادة من صلاحياته إلى أبعد الحدود. فبمقتضى ذلك القانون المشار إليه آنفاً، كان باول هو المستشار العسكري الوحيد للرئيس الأمريكي، وأصبح ضباط هيئة أركانه جميعهم مسؤولين أمامه فقط. وكانت لديه الصلاحية في أن يتخطّذى رؤساء أركان الفروع المختلفة ويصدر توجيهاته بمعزل عنهم. وقد أشارت جميع التقارير الصادرة عن الولايات المتحدة إلى أن الرئيس بوش وتشيني وباول كانوا يعملون معاً في فريق متفاهم. وهنا أدركت أن الإستراتيجية العامة كانت تتحدد في واشنطن بينما توضع الخطط التنفيذية في الرياض. وكان لهذا التقسيم دوره في الحدّ من المعلومات التي كنت أحاول الحصول عليها، كما حَدَّ من مساهمتي في عملية التخطيط الأولي للحرب، وقلص، في الوقت نفسه، من دور شوارتزكوف وجعله قائداً ميدانياً وحسب.

          ولا يخفَى على أحد الدور الكبير الذي تؤديه الاستخبارات في أي صراع. ففي غياب المعلومات الاستخبارية، يسير المرء على غير هدى، فلا يَسْتَبِين مدى قدرات عدوه ولا حقيقة نواياه وهي الأهم. وأن كانت الخطط الحربية بداهة، لا تُبنى إلاّ على المعلومات الاستخبارية، فإن معظم هذه المعلومات، في حرب الخليج، كان يَرِد من مصادر الاستخبارات الأمريكية. وكان لديّ بعض مصادري المستقلة متمثِّلة في رئاسة الاستخبارات العامة السعودية، وهيئة استخبارات وأمن القوات المسلحة ووزارة الداخلية. ومن التقارير الكثيرة التي وصلتني من تلك المصادر، اتضح أن عدداً قليلاً منها كان وهمياً، ولذلك لم يؤخذ في الحسبان. كان ثمة كمٌّ هائل من التقارير يرد إلي يومياً، حتى إنني عهدت إلى أحد أركاني بفرزها ودراستها، ليرفع إليّ ملخَّصاً لما فيها مرفقاً به أهم هذه التقارير وأطرفها. وما أذكره من تلك التقارير الطريفة، أن صداماً كان ينوي تحميل قوافل من الجمال بالمتفجرات وإرسالها إلى صفوف قواتنا. وأذكر أنني نقلت هذه المعلومة الاستخبارية النفيسة إلى شوارتزكوف، على سبيل المزاح.

          وعلى الرغم من نجاح بعض عملائنا، الذين أرسلناهم إلى داخل الأراضي العراقية والكويتية، في الحصول على معلومات قيِّمة، إلاّ أنني كنت أعتمد بشكل كبير على ما يجمعه الأمريكيون من معلومات عن قدرات العراق ونواياه. وكانت تلك المعلومات مستقاة من واقع صوَر الأقمار الصناعية، وطائرات التجسس، ومحلِّلي الشيفرة، والقوات الخاصة. واستمر الوضع على هذا المنوال حتى حصلنا على معلومات تفصيلية، نتيجة لاستجواب الأعداد الكبيرة من الفارين وأسرى الحرب العراقيين.

          أبدى الحلفاء الغربيون استياءهم لأنني لم أسمح لهم باستجواب أسرى الحرب العراقيين الذين أَسَرَتهم القوات العربية. كان لمسلكي هذا ما يبرره، إذ يمثِّل هؤلاء الأسرى مصدراً من أهم وأغنى مصادر المعلومات. لذا، كنت حريصاً على أن يكون هذا المصدر ورقة رابحة في يدي. والأهم من ذلك أنني لم أشأ أن أضعَ مَنْ أَسَرَتْهُم قواتنا في أيدٍ غير سعودية على ترابنا الوطني؛ إذ من شأن ذلك أن يوحي للقوات السعودية وللعراقيين أيضاً، أننا أصبحنا تحت السيطرة الكاملة للحلفاء الغربيين. كما كنت أخشى أن يتحول الأسرى العراقيون إلى أعداء دائمين للمملكة، بسبب الاستجوابات الفظَّة التي قد يتعرّذضون لها على أيدٍ غير سعودية. على كل حال، يحب أن أكون واقعياً، إذ كنت أعرف جيداً أن من يأسر الجنود العراقيين، سواء أكان من الأمريكيين أم البريطانيين أم الفرنسيين أم المصريين، سيبادر على الفور إلى استجوابهم للحصول منهم على أكبر قدر من المعلومات. لذلك، كنت أُصرُّ على تسليم الأسرى إلينا خلال أيام قليلة جداً من وقوعهم في الأسر، أياً ما كانت القوات التي أسَرتهم. وأبدى الأمريكيون رغبة في حضور عمليات الاستجواب التي كنّا نقوم بها، ولكني رفضت ذلك.

          كنت أشعر بالأسف لعدم وجود وحدات من القوات الخاصة السعودية، تضارع وحدات القوات الخاصة الأمريكية والبريطانية، التي أُرسلت لجمع المعلومات خلف الخطوط العراقية. وفكرت مراراً في إرسال رجال من فوج القوات الخاصة المصرية إلى العراق ومن الناحية العملية المثالية، لم يكن هناك ما يمنع استخدامي لهم لتنفيذ هذه المهمة، فلم يكن تدريبهم إلاّ لمثل هذه المهام. ولكني أََحْجَمْتُ عن ذلك لأسباب سياسية. إذ لم أشأ أن أكلِّفهم بمهمة قد تلاقي بعض التحفظ من اللواء صلاح حلبي، قائد القوات المصرية، أو تضطره إلى الرجوع إلى قيادته العسكرية والسياسية. أردت أن أجنَّب المصريين الحرج، وأن نتجنبه نحن أيضاً، وألاّ أتخذ أية خطوة ربما تسيء إلى التعاون السياسي بيننا.

          فلو تردد قائد القوات المصرية في إرسال جنوده، ولم يكن ذلك أمراً مستبعداً، لأثار ذلك استيائي. ولو قَبِلَ تنفيذ مثل تلك المهمة الخطيرة والحساسة دون الرجوع إلى قيادته العسكرية والسياسية، ربما أغضب تلك القيادة. كنت أريد تجنب اللَّوم بأني أُعَرَّض حياة المصريين للخطر بدلاً من السعوديين. كنت بين أمرين أحلاهما مُرّ، لذا آثرت ألاّ أُصدر مثل ذلك الأمر.

          لم نَكُن نوجّه، قبل الأزمة، جهداً كبيراً في المملكة إلى جمع المعلومات عن العراق ؛ فما كنّا نتوقع أن يصبح مصدر تهديد لنا، وخاصة في الثمانينات عندما كان مشغولاً بحربه على إيران. فكيف لنا أن نعلم أَن صديق اليوم سيصبح عدو الغد! لذا، كان علينا أن ندفع ثمن ضَعْفِ معلوماتنا عن العراق فلقد حَرَمَنَا الاعتماد على الأمريكيين في هذا الصدد، من أن تكون لنا يد أطول في التخطيط للحرب.

          أدركت، طوال فترة الأزمة، أن هناك تناقضاً واضحاً في موقف استخبارات التحالف. فقد نشرت القوات الأمريكية وحلفاؤها معدات وأجهزة استخبارية لم يسبق لها مثيل، فضلاً عن ميزة المراقبة من الجو، فكان في وسع الأقمار الصناعية للحلفاء وطائراتهم مراقبة العمق العراقي، باستثناء تلك الأيام التي كانت تسوء فيها الرؤية نتيجة العواصف الرملية أو السحب المنخفضة. وثمة معدات إلكترونية باهرة بحق، مثل أنظمة الاستطلاع المصورة التي كانت تسمح بالتوجيه الدقيق لصواريخ كروز، كما شكَّلت الصحراء مسرحاً مثالياً للقصف الجوي، فكان في وسع الأسلحة الجوية والأرضية مهاجمة أهدافها في أقصى مدى.

          كانت هناك أعداد كبيرة من أركان الاستخبارات وقد انكبوا على العمل في مراكز متعددة، مثل مركز الاستخبارات المشتركة في القيادة المركزية، ومركز التقدير القتالي، ومركز الاستطلاع المشترك الذي يقوم بالاستطلاع الجوي. وكانت طائرات الاستطلاع التصويري (الفوتوغرافي) السعودية تجوب الحدود الكويتية والعراقية.

          ولكن، على الرغم من كل تلك الجهود والميزات الضخمة، ظلت قوات التحالف تجهل الكثير عن العراق ولا أزال أعتقد أن المعلومات الاستخبارية عن العراق كانت من أبرز نقاط الضعف لدى التحالف. فقد فشلت أجهزة المراقبة الفضائية الأمريكية، على ما يبدو، في التنبؤ بغزو العراق الكويت حتى قبل وقوعه بساعات، فضلاً عن النقص في المعلومات بعد الغزو. فظلّت تدور تساؤلات كثيرة مثل: هل كان صدّام يعزز قواته في الكويت كما كان يدعي؟ وما مدى قوة الحرس الجمهوري العراقي التي ما فتئ صدّام يفاخر بها؟ وكيف سيستخدمها؟ وكيف سيكون أداء قواته الجوية في المعركة؟ كان من المفترض أن يكون أداء هذه القوات في مستوى جيد، علماً بأنها لم تثبت جدارتها أثناء الحرب على إيران. ما مدى تقدم برنامج العراق النووي والبَيولوجي والكيماوي؟ هل كان صدّام ينوي استخدام أسلحته غير التقليدية؟ وهل يجرؤ على استخدامها؟ هل سيستخدم القنابل الهوائية؟ هل سيستخدم صواريخ فْرُوجْ frog وصواريخ سكود والصواريخ الأخرى القصيرة المدى؟ هل في وسعه أن يشنَّ هجمات إرهابية ضدنا؟ كانت ثمة شكوك وتخمينات وتوقعات لا حصر لها،وفوق ذلك كله ظلت الشكوك حول نوايا صدّام هاجساً مؤرقاً طوال الوقت.

          وإذا افترضنا أن الولايات المتحدة كانت على علم بالإجابة عن تلك الأسئلة، إلاّ أنها لم تطلِعنا عليها! إما لأن المعلومات التي توافرت لدى الأمريكيين، في ذلك الصدد، هزيلة وغير كافية، أو لأنهم خطَّطوا لإطلاعنا على قدر قليل من المعلومات يضمن تعاوننا معهم، ولكن ليس بالقدر الذي يكشف لنا عن مصادرهم. ويبدو أن مفاتح الأمر كانت في يد واشنطن أكثر مما كانت في يد الأمريكيين الموجودين في الرياض. إذ علمت من بعض كبار الضباط الأمريكيين، أن المعلومات كانت تُحْجَب، في بعض الحالات، عن القوات الأمريكية في المملكة; لأن واشنطن تدرك أن الأمريكيين في الرياض ينتهجون مبدأ الأمانة والمصارحة مع حلفائهم.

          غير أنني أعتقد أن الولايات المتحدة كانت، في معظم الأحوال، تفتقر إلى المعلومات افتقارنا إليها. فقد أورد ديك تشيني، نفسه، في تقريره إلى الكونجرس الأمريكي عن سير الحرب: "لقد كانت نوايا القادة والقوات العراقية ومعنوياتها أمراً غامضاً بالنسبة إلينا". وهكذا، كان يوجد تناقض غريب، فالتحالف يسمع ويرى ما يجري في العراق لكنه يجهل حقيقة الأمور إلى حدٍّ بعيد.

          كنّا والأمريكيين، على حدٍّ سواء، نفتقر إلى "الاستخبارات البشرية" أي العملاء المتمركزين داخل الجهاز السياسي والعسكري في العراق أما على صعيد مسرح العمليات، فكانت أحسن نتائج "الاستخبارات البشرية" تأتي من رجال المقاومة السرِّية الكويتية البواسل، الذين كانوا يوافوننا بالمعلومات عن القوات العراقية، وأماكن اجتماعات القادة العراقيين، والأماكن التي كان يتم فيها تعذيب المعتقلين الكويتيين. أمّا خارج مسرح العمليات، فكانت أكثر المعلومات أهمية عن الصناعات العسكرية العراقية، بما في ذلك المنشآت النووية، تأتي من طريق الشركات الغربية التي أسهمتْ في إنشائها.

          كنت أرى أن الصورة، التي رسمتها الولايات المتحدة عن قوة العراق مبالغاً فيها إلى حدٍّ بعيد. وكان يشاركني تلك النظرة جل المحلِّلين العرب من ذوي الرأي والبصيرة. ففي السنوات العصيبة من الحرب العراقية - الإيرانية، عندما كان أمننا معرضاً للخطر، بات واضحاً ألاّ قِبَلَ للعراق بالتصدي لإيران، على الرغم من إمدادات الأسلحة الحديثة التي كانت تنهال عليه بسخاء من الشرق والغرب، على حدٍّ سواء، بينما حُرِم الإيرانيون من ذلك كله. فمع أن العراق استطاع، عند غزو الكويت دفْع أعداد كبيرة من الجنود إلى ساحة المعركة، إلاّ أنهم، باستثناء بعض وحدات الصفوة، كانوا يفتقرون إلى خفة الحركة، وروح القتال، وبدا ذلك واضحاً في هروب ما يزيد على 100 من العسكريين إلى صفوف قواتنا، حتى قبل أن تبدأ الحملة الجوية التي حوّلت الجدول الصغير إلى سيل عرِم. ولم تنطلِ عليّ ادعاءات صدّام أنَّه تمكن من تعبئة 19 فِرقة إضافية خلال شهر واحد! فلربما استطاع أن يوفر لكل رجل بندقية، ولكن هذا الإجراء أبعد ما يكون عن إعداد قوة قتالية فعالة! فإن كان الجيش العراقي هو "رابع أكبر جيش في العالم" عدداً، فلعله الجيش العشرون كفاءة واستعداداً قتالياً.

          لا أقصد أبداً أن أصور العراق في عهد صدّام حسين ، وكأنه "نمرٌ من ورق"، فقد حشد فعلاً آلة عسكرية ضخمة لا يُستهان بها. ولكن التقديرات الغربية بالغت كثيراً في قدرة العراق القتالية، مما دعا إلى التخطيط لحملة جوية قوية. فهل أدى تبجُّح صدّام ووعيده إلى اعتقاد عدد كبير من المراقبين الأجانب أن قوة العراق وقدرته على مقاومة قوات التحالف أضخم من قدرها الحقيقي؟ وأرجِّح أن الخوف من أسلحة العراق الكيماوية، التي ظلت كمياتها مجهولة حتى نهاية الحرب، كان عاملاً دفع كثيراً من قادة التحالف إلى الاعتقاد بأن العراق عدو لا يُستهان به، بل ينبغي أن يحسب له ألف حساب. وعلى كل حال، فالهزيمة النكراء التي مُنِيَ بها الجيش العراقي في حرب برية استغرقت 100 ساعة فقط، دليلٌ، لا ريب فيه، على أن التحالف قد بالغ كثيراً في تقدير قوة العراق كما أساء تقدير التأثير الذي حقَّقَته الحملة الجوية الطويلة التي سبقت الحرب البرية.

          كان للأمريكيين أسبابهم التي جعلتهم يحرصون على نشْر عتاد عسكري هائل ضد العراق الذي لم يكن سوى قوة متوسطة الحجم من بين دول العالم الثالث. وتُعْزَى هذه الأسباب إلى تجربتهم المُرّة في فيتنام فبعد تلك التجربة، كما علمت، كان ثمة رفض تام بين العسكريين الأمريكيين لفكرة "التصعيد التدريجي" أو "البناء التدريجي" للقوة الأمريكية في مواجهة العدو. وكان كل من كولين باول وتشارلز هورنر وجون يوساك زملاء في كلية الحرب الوطنية، دفعة عام 1976. وقد تركت حرب فيتنام بصماتها عليهم جميعاً، بل على شوارتزكوف نفسه. قال لي هورنر ذات مرة:

"إن المشكلة الأساسية في حرب فيتنام أنها استمرت طويلاً. كنّا نعتقد أن في وسعنا مزج الدبلوماسية بالقتال، وهذا أمر مستحيل. ولعلنا استخدمنا تلك القوة في حرب الخليج، لأننا كنا نحسب حساباً للفشل. وقد تأثرنا قبل بداية الحرب، في الخليج، بوصف الصحافة لنا بأننا غير أكْفاء! قالوا إن معداتنا لا تعمل، ورجالنا لا خير فيهم، وقادتنا العسكريين أغبياء. فكان علينا أن نثبت لهم أنهم مخطئون!".

          نصّت العقائد العسكرية الأمريكية على ضمان النصر بحشد قوة قتالية هائلة ضد العدو، في البر والبحر - والجو، في الليل والنهار، حتى لا يجد العدو الفرصة لالتقاط أنفاسه. كان مبدأ المعركة "البرية الجوية" air land الذي طوَّرته القوات المسلحة الأمريكية في الثمانينات، يقضي بنشر قوات برية وجوية متكاملة وخفيفة الحركة وبالغة التأثير، تستطيع أن تنتزع زمام المبادأة وتحتفظ به. وتستطيع كذلك، أن تملي شروطها على العدو بضربه في عمق أراضيه وخلف خطوطه. ومن هذا المنظور، أثبتت حرب الخليج أنها حملة مثالية لتطبيق تلك العقائد، حتى لو استطاع العدو الصمود فيها.

          في هذا الصدد يقول الفريق هورنر: "إن الواقع الجديد للحرب يقضي باستخدام قوة متفوقة، لتحقيق الهدف في أقصر وقت ممكن".

سابق بداية الصفحة تالي