مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

التخطيط للحرب بالاشتراك مع قوة عظمى (تابع)

          لم أكن راضياً عن تلك الترتيبات، لسبب واحد، هو أن استخدام التشكيلات الأمريكية الضاربة الرئيسية لتنفيذ عملية الالتفاف ( المسماة بـ "الخطاف الأيسر" ) عبر الصحراء الغربية العراقية، يؤدّي إلى تحمُّل القوات المشتركة، في المنطقتين الشرقية والشمالية، العبء الأصعب في اقتحام الدفاعات العراقية الحصينة في الكويت كنت حريصاً، منذ بداية التخطيط، على أن تكون القوات العربية التابعة لقيادتي في الطليعة عند تحرير الكويت وبعد تحقق هذه الغاية في خطة. عاصفة الصحراء، أصبحت أكثر حرصاً على تنفيذ مهمتي بأقل خسائر ممكنة في الأرواح والمعدات، وذلك بضمان حصول قواتي على الإسناد الجوي اللازم والإسناد النيراني القوي من المدفعية على السواء. كنت متأكداً أن المدفعية العراقية متفوِّقة على ما لدينا في القوات المشتركة من مدفعية وراجمات صواريخ وهاونات من جميع الأعيرة. كما كنت أعتبر مدفعيتهم أقوى سلاح لديهم؛ لِما اكتسبته من خبرة خلال الحرب العراقية الإيرانية، ولاتباعها مبادئ المدرسة السوفيتية، التي تقضي بحشد أعداد هائلة ومتفوقة من قطع المدفعية. لذا، كان من المحتم أن تُسكَت هذه المدفعية، أو تُدَمَّر قبل بدء الهجوم.

          وعلى وجه التحديد، ولضمان تحقيق نسبة التفوُّق المطلوبة لمصلحة القوات المهاجِمة على القوات المدافعة، كنت أريد التأكد من أن الوحدات المدرعة ووحدات المدفعية العراقية المواجهة لقطاعيْ مسئولية القوات المشتركة، الشرقي والشمالي، قد تكبدت خسائر بنسبة 50% على الأقل. وقد أوضحت لشوارتزكوف أن قواتي لن تتقدم شبراً واحداً قبل أن تحقِّق الحملة الجوية هذه النسبة. وكان الجدَل على أشدِّه بين قادة قوات التحالف في شأن كيفية التثبُّت من تحقيق نسبة الخسائر المطلوبة، وتحديد أنسب قطاع مسئولية لكل قوة.

          وكان ثمة أمر مهم شغل تفكيري، هو احتمال قيام صدّام بمهاجمة قواتي أثناء تحرك القوات الأمريكية والبريطانية والفرنسية إلى الغرب لاتخاذ مواقعها الهجومية. وقتئذٍ، سيكون مئات الآلاف من الرجال يتحركون من الشرق إلى الغرب ومعهم عشرات الآلاف من العربات والدبابات وقِطع المدفعية والدفاع الجوي وغيرها من المعتاد. كانت تلك في نظري، لحظة من اللحظات التي يمكِن أن يستغلها صدّام للإفلات من مناورة "الخطاف الأيسر". كما كانت الخطة تقضي ببقاء فِرقة مشاة أمريكية واحدة فقط كاحتياطي المسرح (في قطاعيْ الفيلقين السابع والثامن عشر). ولم أكن متأكداً من أن تلك القوة ستكون كافية إذا نشأ تهديد للمنطقة الخلفية. بيد أنه في مواجهة السيادة الجوية الكاملة التي كان يتمتع بها التحالف، لم يكن في وسع صدّام أن يفعل شيئاً ذا بال.

          كانت عملية استعادة دولة الكويت معضلة في حد ذاتها؛ إذ قام العراقيون إثر الغزو بنشْر عوائق كثيرة وكثيفة، تجعل مهمة القوات التي تحاول طردْهم أو زحزحتهم عنها صعبة للغاية، إن لم تكن مستحيلة. كانت هناك خنادق مضادّة للدبابات، وتحصينات ميدانية، وحقول ألغام مختلطة مضادة للأفراد ومضادّة للدبابات، وخنادق مملوءة بالبترول. وكانت الشواطئ على طول الساحل الكويتي مزروعة بالألغام، ومحمية بالنيران. كما شَكّلت المباني، وخطوط الأنابيب الممدودة فوق سطح الأرض، والبنْية الأساسية الصناعية، عوائق إضافية أمام تقدم القوات المهاجِمة، فضلاً عن السكان الموجودين داخل الكويت حتى ذلك الحين. لم يكن هناك سوى الحد الأدنى للحماية من النيران المباشرة وغير المباشرة. كما كنت أرى، أن استعادة مدينة الكويت مشكلة أكثر تعقيداً. فإذا قرر العراقيون الصمود والقتال، فلن تتحرر المدينة إلاّ بقتال متلاحم، من شارع إلى شارع، ومن بيت إلى بيت. لذا، أعددت خطة طوارئ تقضي، في حالة حدوث هذا الاحتمال، بمحاصرة القوات العراقية داخل المدينة لأسابيع عدة بدلاً من اقتحامها، تجنباً لآلاف الخسائر التي يمكِن أن تقع في الأرواح بين العسكريين والمدنيين على حدٍّ سواء.

          وعندما حان الوقت، كانت استعادة مدينة الكويت أمراً سهلاً، بعد أن انسحب العراقيون منها. وكان عدد الخسائر الناجمة عن قتال العدو أقل بكثير من تلك الناجمة عن الحوادث العارضة، وهو ما لم يتوقعه حتى أكثرنا تفاؤلاً.

          وكان الإمداد والتموين هاجساً آخر شغل تفكيري، خاصة بعد مضاعفة عدد القوات وإصرار شوارتزكوف على تدبير احتياطي يكـفي لستين يوماً بدلاً من ثلاثين. أصبح نظام الإمداد والتموين بكامله تحت ضغوط هائلة لا يحسد عليها، فضلاً عن زيادة النفقات عدة مليارات من الدولارات. ولا أرى أننا في حاجة إلى إعادة تناول موضوع الإمداد والتموين مرة أخرى، إذ تناولناه بشكلٍ مفصل في الفصل السابق.

          أمّا المصدر الثالث للقلَق، فيُعزَى إلى أن قوات التحالف لم تكن مستعدة لخوض المعركة البرية قبل شهر فبراير 1991. وكنت أعرف أن وحداتي لن تكون جاهزة للقتال قبل نهاية شهر يناير، إلاّ أن كل تأخير في الموعد كان يزيدني قلَقاً. فشهر رمضان من ذلك العام، الذي وافق حينذاك منتصف شهر مارس، كان على الأبواب، وكانت المواجهة بين التحالف والعراق قد أثارت مشاعر التعاطف في كثير من البلدان العربية والإسلامية، مما ينذر بحدوث أحد احتمالين:

الأول، أن تندلع المظاهرات العنيفة في عدد من البلدان، إذا استمرت الأزمة فترة طويلة، وقد تؤدِّي إلى شلل في بعض المدن. فكان من المتوقَّع مثلاً أن تقع اضطرابات في السودان وباكستان بنجلاديش ماليزيا إندونيسيا وفي شمال أفريقيا (ففي تلك المنطقة البعيدة عن بؤرة الصراع، كان هناك اتجاه إلى مساندة صدّام إِذ كانوا ينظرون إليه كضحية للاستعمار الغربي). ففي الحرب، يجب على المرء أن يُعد العدة لمواجهة أسوأ الاحتمالات، ويحسب لها كل حساب.

          الاحتمال الثاني، إذا استمرت الأزمة لمدة سنة، وتمكَّن العراقيون من الصمود، فإن ذلك قد يفتح علينا جبهات أخرى، مما يضع التحالف أمام تحديات خطيرة. فربما يفكر اليمنيون في اغتنام الفرصة، ويحاولون اختراق حدودنا الجنوبية. ربما استغل الأردن الموقف لمصلحته، ويحاول الملك حسين تحقيق أحلامه في المطالبة بالحجاز.

          كان عليَّ أيضاً أن آخذ في الاعتبار أن غزو الكويت قد يكون جزءاً من حملة جيدة التخطيط، طويلة المدى، وأن صداماً قد زرع بالفعل عملاء له داخل المملكة، إذ تلقيت تقريراً يشير إلى أن العراق جنّد رجالاً من الوحدات المصرية والسورية وأسند إليهم مهمة اغتيالي. ومن المؤكد أن ذلك التقرير. كان مبنياً على معلومات خاطئة من شأنها أن تضعف من تماسك التحالف، ولكنه كان يثير قضية حساسة. لم أكن راغباً في أن تتولد لدى السعوديين شكوك حول القوات العربية التي جاءت لمساندتنا، ولم أكن راغباً في إثارة حفيظة المصريين والسوريين إذا ما تناهى إلى أسماعهم مثل هذا التقرير. كان من شأن هذه الأمور أن توجد حالة من عدم الثقة. ولكي أثبت عدم اكتراثي لذلك التقرير. وللذين يروِّجون له، عمدتُ إلى زيارة القوات المصرية في الميدان، وخاطبت الضباط والجنود وهم ملتفون حولي على شكل نصف دائرة، ثم تجاهلت طاقم حراستي، واندفعت وسط الجنود لأصافحهم. أثلجتْ صدري الابتسامات التي ارتسمت على وجوههم، والحرارة التي طبعت استقبالهم. غطت وسائل الإعلام الغربية والعربية ذلك الحدث بشكل مكثّف، ونجحت بذلك في وأد الفتنة في مهْدها.

          ولكن حتى إن لم تكن كل هذه المخاوف سوى أوهام، فإنني لا أنكِر أن وجود ما يقرب من 750 ألف جندي، بينهم نحو نصف مليون أمريكيّ، كان قضية تدعو للاهتمام والقلق. فلم أكن أعرف بالتحديد تأثير وجود هذا الحشد المتباين من الأعراق واللغات والثقافات والعادات والتقاليد والمعتقدات في الشعب السعودي نفسه، ولهذا كنت أودُّ أن تُحسم الأزمة في أسرع وقت ممكن.

سابق بداية الصفحة تالي