مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

التخطيط للحرب بالاشتراك مع قوة عظمى (تابع)

          أدى النقاش حول خطة عاصفة الصحراء إلى أحد الخلافات الخطيرة بيني وبين شوارتزكوف. كان من عادتنا أن نلتقي كل مساء لمعالجة المشاكل التي تبرز خلال اليوم. وذات مرة، وبدلاً من الانتظار حتى موعد لقائنا اليومي، كتبت بعض النقاط وأرسلتها إليه حتى تكون لديه الفرصة للتفكير فيها. وكان عنوان المذكرة، التي أرسلتها إليه باللغة العربية، "نقاط للمناقشة في شأن عملية عاصفة الصحراء"، وهذا يعني أنها لم تكن أكثر من نقاط مطلوبة مناقشتها.

          ضمّنتُ تلك المذكرة عدة مسائل، كانت تشغل تفكيري في الأسابيع السابقة، ولم تكن قد نالت حظها من النقاش أثناء اجتماعاتنا اليومية. كنت أسعى، في واقع الأمر، إلى الحصول على معلومات بشتى الطرق. فقد كنت أتعامل مع قوة عظمى، ولم يكن هناك سبيل سهل للإحاطة بكل ما لديها من معلومات تفصيلية. كان السبيل الوحيد أمامي للوصول إلى بعض الحقائق هو المبادرة إلى المناقشة أو إثارة مسائل جدلية مع شوارتزكوف. كنت أخشى، في قرارة نفسي، أن تكون الخطة التي اشتركنا في وضْعها مع الجانب الأمريكي خطة وهمية، تختلف تماماً عن النوايا العملياتية الحقيقية.

          أوردت في مذكرتي عدة نقاط، تناولت إحداها أسبقية قصف الأهداف خلال الحملة الجوية الإستراتيجية. كنت أريد أن أعرف أيّ الأهداف سيتم تدميرها أو إسكاتها أولاً. ( كنت قد طلبت إيجازاً كاملاً عن الحملة الجوية قدّمه في غرفة العمليات الفريق هورنر وعاونَتْه باقتدار امرأة برتبة رائد من استخبارات القوات الجوية للقيادة المركزية، إلاّ أن المعلومات التي قُدمت لي لم تكن وافية ). فبمراجعة المسودة الأولى لخطة العمليات المشتركة، اتضح لي أن بعض المهام كانت غامضة، وأن الأسبقيات لم تكن واضحة. وأدركت أن الحملة الجوية أصبحت حكراً على الولايات المتحدة إلى حدٍّ كبير، وعلى الرغم من ذلك، كان من الضروري أن أعرف ما سيتم تنفيذه من مهام أثناء الحملة. ولكي أحصل على المعلومات التفصيلية، كان عليَّ أن أُظهِر أنني مُلِمٌّ بالتفاصيل ومهتم بها.

          كان اهتمامي الأول، هو التأكد من إعطاء الأسبقية القصوى لتدمير صواريخ سكود العراقية عند بدء الحملة الجوية، وذلك لما له من تأثير نفسي بالغ في المدنيين في المملكة. وكنت أخشى أن تسبب هذه الصواريخ حالة من الذعر إذا أصابت مدننا، إذ لم يكن لسكانها سابق عهد بالحروب. كما أن هجوماً على إسرائيل بصواريخ سكود، كان من شأنه أن يرفع شعبية صدّام ليس في العالم العربي فحسب، بل في العالم الإسلامي أيضاً، وهذا ما حدث بالفعل، على الرغم من ضعف التأثير العسكري لتلك الصواريخ.

          ولهذا السبب، ضمَّنت مذكرتي قائمة بأسبقية الأهداف التي يجب تدميرها، تبدأ بصواريخ أرض- أرض، ثم القوات الجوية العراقية بمطاراتها ومنشآتها الجوية، ثم مراكز القيادة والسيطرة والاتصالات ومراكز المراقبة والتشويش الإلكترونية، ثم نظام الدفاع الجوي، فمدفعية الميدان وراجمات الصواريخ قرب حدودنا، ثم مستودعات الذخيرة ونقاط إمداد الوقود في الكويت وجنوب البصرة وأوضحت أن تلك الأهداف جميعها تشكِّل تهديداً مباشراً لقواتي، وأن تدميرها ضروري لضمان نجاح الهجوم البري.

          وثمة مسألة أخرى أثَرْتها في مذكرتي تتعلق بدور القوات الخاصة. ففي كثير من الحملات الحربية التي درستها، كانت المعلومات التي تجمعها القوات الخاصة خلف خطوط العدو تؤدّي إلى تغييرات جوهرية في خطط العمليات. وتساءلت عن الحكمة من الاعتماد كلية على القوة الجوية في المرحلتين، الأولى والثانية من الحملة. أَلَمْ يكن من الأوْفق أن يكلِّف التحالف القوات الخاصة بشنّ غارات خلف خطوط العدو حتى قبل بدء الحملة الجوية؟ كان في قدرة مثل هذه القوات جمع المعلومات، وخطْف الأسرى، وإثارة حالة من الذعر والفوضى بمهاجمة المواقع المنعزلة. ولمّا كان ذلك موضوعاً حساساً، لم أشأ أن أمارس ضغطاً كبيراً للحصول على معلومات في شأنه، ولكني كنت أرغب في أن أُحاط علماً بمجريات الأمور بشكل عام. كنت أريد أن أعرف، مثلاً، ما إذا كان في وسعنا الاستعانة بالقوات الخاصة الأمريكية إذا حدث أن أُسقط أحد طيارينا فوق الأراضي العراقية؟ كما كان في وسعي أن أساعد تلك القوات الخاصة إذا عرفت، على وجه التحديد، القطاع الذي تعمل فيه. ولكنني علمت، بعد ذلك، أن القوات الخاصة الأمريكية كانت قد دخلت العراق قبل أسبوع تقريباً من بداية الحملة الجوية. وعلى العكس من الأمريكيين، كان البريطانيون أكثر ثقة بنا، إذ عَبَرَتْ قواتهم الخاصة sas خلال قطاع مسئوليتي إلى الأراضي العراقية، قبل ذلك بأسابيع عدة، وبذلنا لهم كل مساعدة ممكنة.

          وتساءلت أيضاً في المذكرة عن موضوع مختلف تماماً، محوره إلى أي مدى أفادت خطة عملية عاصفة الصحراء من الإمكانات والقدرات الفريدة للفِرقة 82 المحمولة جواً، والفرقة 101 اقتحام جوي؟ فالفرقتان تتميزان بالسرعة، وخفة الحركة، والقدرة على الاستيلاء على الأهداف الحيوية خلْف خطوط العدو. لقد بدا لي أن شوارتزكوف كان ينوي استخدام هاتين الفِرقتين مع ما تتمتعان به من قدرة قتالية متفوِّقة، كأنهما من فرق المشاة العادية. وأوضحت في المذكرة أن استخدامهما داخل عمق العراق من شأنه أن يخلق حالة من الفوضى والذعر، ربما تؤدّي في النهاية إلى انهيار الجبهة العراقية بكاملها. كان السبب في استفساري عن استخدام هاتين الفِرقتين بالتحديد هو خشيتي أن تكون تفاصيل الخطة قد حُجِبَت عني، وزاد من شكوكي ما اعتبرته استخداماً غير صحيح لهاتين الفِرقتين. كنت أعلم أن أسئلتي ستثير استياء شوارتزكوف، ولكني كنت أعتقد أن ردود فعله سوف تكشف لي إن كانت الخطة التي عُرضت عليَّ، هي الخطة الحقيقية أم لا!

          أمَّا عن القطاعين الشرقي والشمالي، اللذين يقعان تحت قيادتي، فقد استفسرت عن المهام التفصيلية التي كُلِّفتْ بها وحداتي، وإن كان فريق التخطيط المشترك قد أدخل في حساباته قوة العدو الذي ستواجهه تلك الوحدات، وقطاع الاختراق لها، والأهداف المطلوب تحقيقها، وهل من الأفضل أن تكون هناك وقفة تكتيكية في نهاية كل يوم من أيام القتال. كنت أشعر أن الخطة حددت مهمة القوات المشتركة بصفة عامة، ولم توضح: ماذا؟ ومن؟ وأين؟ ومتى؟ ولماذا؟ خمسة أسئلة تجب الإجابة عنها لتحديد مهمة كل وحدة بوضوح وبعبارات محددة لا لَبْس فيها. كانت وحداتي في حاجة إلى معرفة الدور الذي ستؤدّيه بشكل واضح، فضلاً عن أن الخطة لم تحدد الوحدات التي ستبقى في المواقع الدفاعية، بعد مغادرة القوات المهاجِمة لها.

          كما عَبّرتُ في مذكرتي عن اهتمامي في شأن اليمن والأردن والسودان وإيران. واقترحت ضرورة زيادة عمليات الاستطلاع والمراقبة لهذه الدول، فلو شُنَّت علينا هجمات صاروخية مفاجئة، لتعذر علينا، ونحن في خضم المعركة، أن نحدد مصدر الهجوم.

          بيد أن أكثر النقاط إثارة للخلاف في مذكرتي كانت تتعلق بتركيا. إذ تساءلتُ: أَلَيس من الحكمة أن نضع خطة طوارئ لشنّ هجوم رئيسي على العراق من تركيا؟ كنت أقصد، بطبيعة الحال، الهجوم الجوي ( كما سأوضح في الفصل القادم ) الذي يهدف إلى إصابة العراق بالشلل. وقد يدفع ذلك صداماً إلى الاعتقاد بأن الهجوم البري سيأتي من الاتجاه نفسه. كانت ميزات هذا الاقتراح كثيرة. فإذا استطعنا فتْح جبهة ثانية في الشمال، فإن ذلك سيجعلنا نهاجم جناحاً ضعيفاً في دفاعات صدّام ونرْبك خطوط إمداده بإجباره على إرسال الرجال والإمدادات على وجه السرعة إلى الشمال. وهذه المباغتة ستضطره إلى تشتيت قواته وبعثرة قدراته، وقد تجبره على الاستسلام من طريق التلويح باحتمال تقسيم العراق وأوضحت أن النجاح على الجبهة الشمالية من شأنه أن يرفع الروح المعنوية لقوات التحالف.

          كنت قد أثَرْت مع شوارتزكوف، من قبل، وفي مناسبات عدة، فكرة فتْح جبهة ثانية من تركيا وكان الرد، في كل مرة، أن الأمر ما زال محل نقاش مع الأتراك. وبإثارتي هذا الموضوع مرة أخرى في مذكرتي، أردته أن يعلم أن هذا الأمر لا يزال محل اهتمامي. وعلى الرغم من أن خطة عاصفة الصحراء لم تتطرق إلى شنّ هجوم من الأراضي التركية، إلا أن الحملة الجوية أوضحت، بجلاء، أنه سوف يتـم استخدام القواعد الجوية المجاورة التابعة لحلف شمال الأطلسي، بما في ذلك بلا شك القاعدة الجوية التركية في إنجرليك incirlik. فما هي حقيقة الوضع؟

          لم يكن خافياً، وقتئذ، أن الرأي العام التركي كان منقسماً على نفسه في شأن مشاركة تركيا في الحرب. أعطى الرئيس أوزال ozal تأييده المطلق للتحالف، إلاّ أن غالبية مواطنيه كانت تفضل التزام الحياد. ولعل الخوف من قيام العراق بتوجيه ضربة مضادّة إلى تركيا هو الذي دفع القادة العسكريين الأتراك إلى معارضة إرسال قوات برية إلى المملكة. ولحسن الحظ لم نكن في حاجة إلى تلك القوات. أدّت هذه القضية إلى استقالة وزير الدفاع التركي صافات جيراي safat giray في شهر نوفمبر، وتبِعه بعد ذلك الفريق أول نجيب طورمطاي necip torumtay، رئيس الأركان القوي. ولكننا والأمريكيين كنّا نأمل أن ترسل إلينا تركيا قوة، ولو رمزية.

          وقبل بدء الحملة الجوية بأسابيع عدة، وفى محاولة لإقناع الأتراك بالاشتراك في التحالف، طلبت منّا القيادة المركزية الأمريكية في الرياض السماح لها بدعوة بعض كبار الضباط الأتراك إلى المملكة. لإطلاعهم على الموقف. فأجبت على الفور بأن الدعوة، يجب أن تصدر عنّا نحن. وهكذا أُرسلت الدعوة، ووصل الوفد التركي فقدّمنا إلى أعضائه شرحاً موجزاً للخطة ورتبنا لهم زيارة إلى غرفة الحرب.

          اجتمعتُ، مرات عدة، إلى السفير التركي الذي أكد أن بلاده تَعُدّ نفسها شريكاً في الصراع، وأنها ترتبط بعلاقات تاريخية وثيقة مع المملكة. ولكنه أوضح أن ثمة قيوداً على الخطوات التي يمكن أن تتخذها تركيا وأشار إلى أن بلاده أثارت حفيظة العراق بإغلاقها خط الأنابيب، الذي يحمل النفط العراقي عبر أراضيها.

          كانت الإشارة إلى موضوع تركيا في مذكرتي، هي القشة التي قَصَمَت ظهر البعير بالنسبة إلى شوارتزكوف! فقد لأمست وتراً حساساً نظراً إلى حساسية الظروف السياسية التي تحيط بذلك الموضوع. كنت في اجتماع إلى لجنة كبار الضباط عندما أخبرني العقيد أحمد لافي، الركن الشخصي، أن شوارتزكوف يرغب في مقابلتي في مكتبي في أقرب وقت. فأرسلت إلى شوارتزكوف أخبره بأنني سأمرّ بمكتبه في طريق عودتي بعد أن أفرغ من ذاك الاجتماع. وكان ذلك يخالف النظام المتبع في اجتماعاتنا.

          من لحظة دخولي إلى مكتبه، أحسست أن شيئاً ما قد حدث. بدا الرجل على غير عادته! لم يخرج لاستقبالي كما تقتضي قواعد اللياقة، ولم يدعُني للجلوس، بل ظل واقفاً، ووجْهه يتفصَّد غضباً، مما جعل الدم يغلي في عروقي أنا الآخر.

لَوّح لي بورقة كانت في يده وقال، بنبره حادة لم ترُق لي:
أتعترض على خططي للهجوم؟ وما هذا الذي تقوله عن تركيا؟ إن الملك فهداً، نفسه، وافق على شَنّ الهجوم من الأراضي السعودية".

          أجبته غاضباً: "هل قرأت مذكرتي؟"، فقال: "لم يحدث قط أن تدخلت في شؤون قوّاتك، فَلِمَ تسأل عن قوّاتي؟".

          وكما توقعت، لم يرحِّب شوارتزكوف بملاحظاتي، على أسلوب استخدامه للفِرقة 82 المحمولة جواً والفرقة 101 اقتحام جوي.

          أضاف شوارتزكوف بانفعال: "إن تشيني والرئيس بوش قد علِما بمذكرتك هذه". وبدا لي، أنه قام بنقل مذكرتي؟ بالتسلسل القيادي إلى قيادته العليا، إلى رئيس هيئة الأركان المشتركة، فالوزير تشيني، فالرئيس بوش نفسه.

قلت له: هذه ورقة مناقشة ليس إلاَّ. ومن المؤكد أن مترجمك أخطأ الترجمة".
لم يغير ذلك شيئاً في الموقف، وشعرت بأن صدِاماً سيقع بيننا لا محالة.
أردف يقول: "وماذا عن السوريين؟ سمعت شائعات تقول أنهم لا يريدون القتال".
فأجبته: " ولكننا لم نتلقَّ إجابتهم بعد".
فصاح قائلاً: "يا إلهي! ماذا تعني؟".

          كنّا قد سألنا السوريين؟ من قبل عن موقفهم، فأجابوا بان مهمتهم تقتصر على الدفاع عن المملكة، ولم نكن نعرف، حتى ذلك الوقت، إن كانوا سيشاركون في العمليات البرية لتحرير دولة الكويت أم لا.

          قلت له: "هذه مشكلتي أنا. ولا دخْل لك فيها. لقد توجَّه وزير خارجيتنا الأمير سعود الفيصل إلي دمشق لمقابلة الرئيس الأسد. وستتضح لنا الأمور بعد عودته".

          لم يلقِ شوارتزكوف بالاً إلى الشرح الذي أوضحته، وتفوه بكلمات غير لائقة عن موقف السوريين. ثم انتقل مرة أخرى إلى موضوع المذكرة. ويبدو أنه ظنّني أتحدى سلطاته.

          صاح بحدة تزداد شيئاً فشيئاً: "هل هذا هو موقفك النهائي؟ نريد أن نعرف! هل تصرُّ على خطة بعينها؟ ".

          عند هذا الحد بدأت أصواتنا ترتفع، فصرخت به: "لا ترفع صوتك، ولنتوقف عند هذا الحد قبل أن يزداد الأمر بيننا سوءاً!". وخرجت من الغرفة على إثر هذه العبارة.

          بعد تلك المشادة الكلامية بيننا، لزم كـل منّا مكتبه. ولم يعلم بالأمر إلاَّ المقرَّبون من أركاننا. كنت حريصاً على تجنُّب مقابلته، فلم أحضُر اجتماع ( الاستماع إلى التقارير ). تلك الليلة، ولم يحضُره هو الآخر.

          اتصل بى الأمير سلطان تلك الليلة هاتفياً، وأبلغني رغبته في أنْ أبحث إحدى المشاكل مع شوارتزكوف. فوجدت نفسي مضطراً إلى أن أخبره أننا لسنا على وفاق ولا يكلِّم أحدنا الآخر، وأن من الأفضل تأجيل بحث ذلك الأمر يوماً أو يومين.

          أبدى سمو الأمير اهتماماً بالأمر وقال: "هل في وسعي أن أفعل شيئاً؟ لا مفر من التعامل معه... لا يمكنك...".

          قلت له: "أرجوك يا سيدي وأتوسل إليك أن تترك لي هذا الأمر. فإذا شعرت أننا قد وصلنا إلى طريق مسدود، فسوف أحيط سموكم عِلماً بذلك. إن الأمر، الآن، لا يعدو أن يكون مشاحنة بين قائدين فقدا صوابهما".

          اتصل بى الأمير سلطان مرة أخرى يسألني: "هل أستدعيكما إلى مكتبي؟". لم أوافق على ذلك، كنت أريد أن يأتي إليّ شوارتزكوف من تلقاء نفسه.

          لم أرَ شوارتزكوف في اليوم التالي، وعقدت اجتماعاتي كالمعتاد. ولكني أرسلت الركن الشخصي، بعد ظهر ذلك اليوم، ليخبر ركنه الشخصي بأن اجتماعنا المسائي سيتم في موعده المعتاد. وهكذا، حضر شوارتزكوف، وبدت عليه علامات التوتر والترقب. وعلى غير عادتي، لم أذهب لاستقباله عند باب مكتبي.

          بادرتُه قائلاً: "يا جنرال، إنني أدعوكَ للجلوس، وهو الأمر الذي فاتك أن تفعله عندما كنت أنا في مكتبك آخر مرة!".

تبادلنا الاعتذارات بعد أن أوضحت له أنني لم أكنّ أقصد أن أملي عليه إستراتيجية معينة.
قال:"لقد أمضيت يوماً عصيبا".

          فأجبتُه: "بالمناسبة، عندما أذهب إلي مكتبك في المرة القادمة، تذكّر أن عليك أن تخرج لاستقبالي، وأن تدعوني للجلوس".

فصاح قائلاً: "هل جرحت شعورك؟"
فقلت: "طبعاً". وضحكنا من هذا الموقف.

          زال سوء الفهْم بيننا. وعادت علاقتنا، في لحظات قليلة، إلي ما كانت عليه من ودّ واحترام.

          قال شوارتزكوف، وهو يهم بالانصراف من مكتبي: "خالد، هل رأيت وجهك وأنت غاضب؟ إنه يصبح أسود". ثم أردف يقول: "لا أدري كيف أتعامل معك يا خالد.. هل أتعامل معك بصفتك قائداً عسكرياً أم بصفتك أميراً؟".

فأجبتُه: "كلاهما".

وانتهى أمر تلك المذكرة عند ذلك الحد، على الأقل من جانبي.

          ومن الجدير بالذكر أن رواية شوارتزكوف عن الحادثة في كتابه it doesn`t.take a hero، تنقصها الدقة. إذ ادَّعى أنني "قلت على الملأ إن أفضل طريقة للحرب هي شنّ هجوم من الأراضي التركية." وهذا قولٌ غير صحيح، فلم يحدث أن تحدثت في هذا الموضوع على الملأ، فالذي حدث هو أنني نقلت وجهة نظري فقط إلى شوارتزكوف في رسالة خاصة. ولو أنني أعلنت على الملأ أن يكون الهجوم من الأراضي التركية بدلاً من المملكة، لتَصَدّر هذا الإعلان الصفحات الأولى من صحف العالم بأسره. والأدهى من ذلك والأمرّ، أنه كتب يقول إنني كنت "أتحدث" عن أننا في المملكة. لا نميل إلى مهاجمة إخواننا العرب". يريد أن يوحي بذلك أنني اقترحت تركيا لمعارضتي شنّ الهجوم من الأراضي السعودية. وهذا زعمٌ أقل ما يوصف به أنه يجافي الحقيقة.

          عندما اقترحت مهاجمة العراق من الأراضي التركية والأراضي السعودية، كنت أتوقع الذي حدث بالفعل. إذ هاجمت الطائرات الأمريكية العراق من "إنجرليك"، يوم 18 يناير. وكنت باقتراحي لذاك الهجوم في مذكرتي، أريد أن أبيِّن لشوارتزكوف أنني على حدسٍ بأن الأمر سيتم بتلك الطريقة. وكما هي الحال في جميع اتصالاتي مع شوارتزكوف، لم تكن مذكرتي، تلك إلاّ استدراجاً لجعله يطلعني على المعلومات الكاملة لديه. كنت مُصِرّاً على حقي في أن أعرف كل شيء، ولم أكن أتوقع أن يصل أمر مذكرتي إلى ما وصل إليه. ولكن ربما كانت لحظة الغضب تلك، انعكاساً للتوتر الذي يعتمل داخلنا. فما أن طفا التوتر على السطح حتى انتهى كل شيء بسلام.

سابق بداية الصفحة تالي