مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

التخطيط للحرب بالاشتراك مع قوة عظمى (تابع)

          والحق يقال، كان الآخرون أسبق منّا إلى إدراك الخطر الذي يجسده صدّام فقد علمت، فيما بعد، أنه في أواخر صيف عام 1989، بعد سنة تقريباً من نهاية الحرب العراقية ـ الإيرانية، توصل المحلِّلون في وزارة الدفاع الأمريكية إلى نتيجة مفادها أن خطر صدّام على استقرار المنطقة أكبر من خطر المتشدِّدين في إيران. فما أن تخلت إيران عن الصراع مع العراق. ووافقت على وقف إطلاق النار، حتى شرع القائد العراقي دون إبطاء يمارس الضغوط على جيرانه ويطالبهم بقروض جديدة، وبإسقاط ديون الحرب، إضافة إلى تنازلات كثيرة أخرى.

          أدى تزايد القلق من آلة صدّام الحربية إلى نشاط دءوب في البنتاجون في واشنطن وفي القيادة المركزية الأمريكية في تامبا في ولاية فلوريدا إذ بدأ مخططو الدفاع تحويل الاهتمام وخطط الطوارئ من إيران إلى العراق. وتمخضت هذه الأنشطة عن خطة سرِّية وضعتها القيادة المركزية، في منتصف عام 1990 لمجابهة أي اعتداء عراقي على المملكة أو الخليج. وكان عنوان تلك الخطة "الدفاع عن شبه الجزيرة العربية"، وتُعرف بـ "خطة العمليات 1002- 90". أجرت القيادة المركزية، في شهر يوليه 1990، قبل غزو صدّام الكويت بشهر واحد "مباراة حربية" أسمتها "نظرة داخلية"، وُضِعَت على أساس افتراضات معينة وتصور لتسلسل أحداث محددة. وتبين، فيما بعد، أنها تشبه الأحداث التي وقعت في الخليج فعلاً، إلى حدٍّ يثير التعجب! (ومن المدهش حقاً أن شوارتزكوف قال لي في بداية الأزمة إن قواته خسرت الجولة الأولى في أول تجربة في (المباراة الحربية)، ولعل هذا هو السبب في الأعداد الكبيرة من القوات التي نشرتها الولايات المتحدة عندما جاءت لتواجه الموقف الحقيقي).

          ندما أقدم صدّام على غزو الكويت أعطت خطة الطوارئ تلك، التي أُعدت قبل الحرب، القيادة المركزية الأمريكية دفعة كبيرة إلى الأمام (كما ذكر وزير الدفاع ديك تشيني في تقريره إلى الكونجرس فيما بعد)، وأسهمت في سرعة وصول القوات الأمريكية، من أسراب جوية وقوات برية وحاملات طائرات، إلى مسرح الأحداث.

          كنّا نطوِّر الخطط الدفاعية التي وضعناها في الأسابيع العصيبة الأولى، يوماً بيوم، طبقاً للمتطلبات الدفاعية، ولموقف القوات السعودية، وما يصل إلى المملكة من قوات شقيقة وصديقة. ونُقِّحت تلك الخطط، بعد ذلك، بالتعاون مع حلفائنا، لتصبح خطة دفاعية شاملة عُرِفَت باسم "درع الصحراء". وفي واقع الأمر، كانت خطة درع الصحراء جهداً مشتركاً، خصوصاً ما يتعلق بالعمليات البرية، مع الفريق يوساك. إذ كنتُ وإيّاه أُولى العقول المدبرة لتلك الخطة. وعندما وصل شوارتزكوف إلى مسرح الأحداث في أواخر شهر أغسطس، كانت جميع الوحدات في مواقعها الرئيسية المحددة.

          وكما سبق أن ذكرت، أنشأت ويوساك "مركز التنسيق والاتصالات والتكامل لقوات التحالف". ليكون أداة فاعلة لتحقيق التكامل بين قواتنا البرية، والتناسق في خططنا الدفاعية. كان المركز هو التنظيم الذي ربط بين القوات الإسلامية والعربية وبين نظيرتها الغربية. وفي تلك الأثناء، كان الفريق هورنر وأركانه يضعون خطة الحملة الجوية الإستراتيجية على العراق. في إطار من السرِّية والتكتم، وكانت خطة الحملة البرية منفصلة تماماً ولم تتبلور بعد. ومما تنبغي الإشارة إليه أنه خلال مرحلة التخطيط كلها، حافظ الأمريكيون على السرِّية القصوى، وكانوا حريصين على ألاّ تنكشف أوراقهم. ولم نشترك معهم، بشكل كامل، إلا في أواخر نوفمبر بعد صدور قرار مجلس الأمن رقم 678 الذي أجاز للدول الأعضاء المتعاونة مع حكومة الكويت "أن تستخدم جميع الوسائل اللازمة". عندئذ، تم تشكيل. "فريق تخطيط مشترك" في الرياض، ضَم ممثلين للمشاركين الرئيسيين في التحالف. مَثّل اللواء الركن يوسف محمد مدني، الجانب السعودي في هذا الفريق، وكان يعمل نائباً لي إبّان مشروع الصواريخ الصينية. وهو ضابط متمرس وطموح وذو طبيعة حادّة لا تقل عن حِدّة نظيره الأمريكي، اللواء البحري جرانت شارب grant sharp. وفي الوقت الذي اكتمل فيه تشكيل الفريق، كـان الأمريكيون قد فرغوا من تحديد الخطوط العريضة لعملية عاصفة الصحراء.

          وكما اتضح بعد ذلك، فإن الخطة اشتملت على حملة من أربع مراحل منفصلة، ولكنها متداخلة في الوقت نفسه:

المرحلة الأولى:

شنّ حملة جوية وصاروخية إستراتيجية على العمق العراقي بهدف شل القيادة العراقية وتدمير "مراكز الثقل".

المرحلة الثانية:

تحقيق السيادة الجوية فوق مسرح العمليات الكويتي، وذلك بتدمير الدفاعات الجوية، وأنظمة القيادة والسيطرة العراقية.

المرحلة الثالثة:

إضعاف القدرة القتالية للقوات البرية العراقية ووحدات الصواريخ والمدفعية المساندة بنسبة 50% على الأقل، وقطع خطوط إمدادها، وتدمير أنظمة القيادة والسيطرة والاتصالات بواسطة النيران الكثيفة من الجو والبحر.

المرحلة الرابعة:

تحرير الكويت بشنّ هجوم بري.

          أدخلنا تغييرات عدة على الخطة، بعد أخذٍ وردٍّ بيني وبين الجانب الأمريكي، وعلى الأخص في المرحلتين الأخيرتين (الثالثة والرابعة). كنت حريصاً على تحقيق نسبة خسائر في القوات العراقية القدر الكافي قبل شنّ الهجوم البري. وثمة نقطة مهمة أخرى، حظيت باهتمامي الشديد، هي تحديد طرق الإمداد للوحدات تحت قيادتي. فالخطة الأصلية كانت تقضي بأن تستخدم القوات الأمريكية الطرق الرئيسية، بينما تضطر أرتالنا إلى السير في خطوط متعرجة ذهاباً وإياباً. لذلك، صمَّمتُ أن يكون لكل قطاع من القطاعات طرق الإمداد الخاصة به. كنت حريصاً على حماية خطوط إمدادي بالتأكد من أنها لا تتقاطع مع خطوط الإمداد الأمريكية، ومن ثَمَّ لا تقع تحت سيطرة الأمريكيين في أي جزء من أجزاء الطريق. وبعد مناقشات مستفيضة، تم الاتفاق على تنظيم الطرق المؤدِّية إلى جميع قطاعاتنا بما يضمن عدم تقاطعها مع طرق الإمداد الأمريكية. واستطعنا أيضاً تحديد قطاعات المسئولية تحديداً دقيقاً، لكل وحدةً من القوات المختلفة التي كانت تعمل تحت قيادتي. كما حدَّدنا أماكن اقتحام وعبور قواتي الخطوط الدفاعية العراقية حول الكويت وكنت حريصاً كل الحرص على أن تقود القواتُ السعودية القوات المهاجِمة.

          وعلى الرغم من أننا لم نشترك في عملية التخطيط للهجوم في مراحلها الأولى، إلاّ أنني كنت أعلم بوجود جدل كبير ظل دائراً في المعسكر الأمريكي، طوال شهر أكتوبر 1990، للتوصل إلى أفضل أسلوب لمهاجمة المواقع العراقية. فقد عرض رئيس أركان القيادة المركزية في بداية شهر أكتوبر، في البنتاجون، خطة شوارتزكوف الأساسية للهجوم البري، على تشيني وزير الدفاع، وبول ولفوفيتز، كما عرضها، في البيت الأبيض، على الرئيس بوش ونائبه دان كويل وروبرت جيتس، رئيس الاستخبارات المركزية الأمريكية، وبرنت سكوكروفت، مستشار الأمن القومي. وكانت تلك الخطة تقضي بالهجوم بالمواجهة ليلاً على المواقع العراقية بواسطة فيلق واحد، بهدف احتلال الأراضي المرتفعة الواقعة شمال - غرب مدينة الكويت ومن الواضح أن هذه الخطة رُفِضَتْ، لأنها تؤدي إلى حدوث خسائر عالية نتيجة اتِّباع الهجوم بالمواجهة، مع احتمال قيام العراقيين بشنّ هجوم مضادّ، أو بتنفيذ ضربة إجهاض، مما يفقد التحالف توازنه. ويقال إن سكوكروفت سأل ممثلي القيادة المركزية: "لِمَ الإصرار على الهجوم بالمواجهة والاختراق من الوسط؟ لِمَ لا تتبعون أسلوب الالتفاف"؟. و"الالتفاف" أسلوب قديم قِدَم الحروب نفسها.

          أصدر تشيني، نتيجة لتلك الاعتراضات، أوامر إلى المخطِّطين بدراسة وتطوير البديل الأخر للهجوم وهو "الالتفاف على القوات العراقية وتطويقها عبر الصحراء الغربية للعراق". وهي المناورة التي تم تنفيذها وحقَّقَت نجاحاً باهراً. كما تم الاتفاق في ذلك الوقت، على أن تطبيق هذه الإستراتيجية يستلزم أكثر من فيلق أمريكي. لذلك، حضر الفريق أول كولين باول إلى الرياض في 21 - 22 أكتوبر، ليتناقش مع شوارتزكوف في شأن حجم القوات الأمريكية اللازمة لتنفيذ المهمة بنجاح. عندئذٍ، أقنعه شوارتزكوف بحاجته إلى إشراك فيلقين في تلك العملية. وفي 31 أكتوبر، وافق الرئيس بوش على الانتشار الجديد للقوات الأمريكية. وأعلن في مؤتمر صحافي عقده في الثامن من نوفمبر عن قراره إرسال هذه التعزيزات الجديدة الضخمة. فأوضح بذلك أن الولايات المتحدة جادة في دخول الحرب. وجاء في إعلانه: بعد مشاورات مع الملك فهد وحلفائنا الآخرين، أصدرت توجيهاتي اليوم إلى وزير الدفاع بزيادة حجم القوات الأمريكية المشاركة في عملية درع الصحراء، لتكون للتحالف القدرة على اختيار "البديل الهجومي"، إذا ما دعت الضرورة، لتحقيق أهدافنا المشتركة". كانت تلك إشارة واضحة، في نظر بعض المراقبين، لكن صداماً أََصَمَّ أذنيه عنها. وثمة رأي معارض، مؤدّاه أن الرئيس، العراقي كان يعلم يقينا أن الحرب ستقع لا محالة، إلاّ أنه رأى أن انسحابه من الكويت في تلك المرحلة، سوف يزعزع موقفه، وهذا يعني أنه آثر التضحية ببلده إنقاذاً لنفسه.

          كانت التعزيزات العسكرية الأمريكية هائلة حقاً; إذ شملت الفيلق السابع بكامله، حيث نقل من أوروبا إلى الخليج، وأُنيطت به مهمة القيام بالهجوم الرئيسي على عمق الدفاعات العراقية وتدمير قوات الحرس الجمهوري. بالإضافة إلى ذلك، شملت التعزيزات الأمريكية الفِرقة الأولى مشاة، وفرقة أخرى من مشاة البحرية، وثلاث حاملات طائرات إضافية، و400 طائرة مقاتلة.

          قال لي شوارتزكوف. "لا أكاد أصدق! إنهم يعطونني أكثر مما طلبت".

          وهكذا أصبحت القوات البرية التي حُشِدَت لمواجهة صدّام تضم فيلقين أمريكيين كاملين (الفيلق الثامن عشر المحمول جواً والفيلق السابع)، وفيلقاً من مشاة البحرية الأمريكية، وفِرقة مدرعة بريطانية وفِرقة فرنسية خفيفة. إضافة إلى نحو فيلقين عربيين يتكونان من فيلق مصري، وفرقة سورية، وعدد من الألوية السعودية والخليجية. ولو أن هناك قوة عسكرية لا تُقهر، لكانت هي هذه القوة.

          كان الحذر الزائد والتردُّد في قبول المخاطرة مسيطراً على فكر شوارتزكوف عندما اشترك في التخطيط المبدئي للعمليات، فلم يتخلَّ حتى النهاية عن الاعتقاد، بل الإعلان أن العراق قوة هائلة لا يُستهان بها. كما بدا قلِقاً من فِرق الحرس الجمهوري المدرعة. ولهذا، كان يطلب المزيد من القوات والإمدادات ودبابات إبرامز miai التي كانت الوحيدة، في تقديره، القادرة على مجابهة الدبابات العراقية t-72.

          نصّت العقائد القتالية للحرب البرية، مثلما نصّت في الحملة الجوية، على استخدام القوة الهائلة المتفوِّقة لتحقيق النصر السريع. فبعد الدمار الذي أحدثته الحملة الجوية، وهي أضخم حملة جوية لتحضير ميدان المعركة تُنفّذ منذ الحرب العالمية الثانية، ثبت أن العراق أصبح ضعيفاً هشّاً، ولا شك أن المؤرخين العسكريين سوف يقررون إن كانت مخاوف شوارتزكوف في محلها أم مبالغاً فيها!

          وأذكر أن ديك تشيني والفريق أول كولين باول، قاما بزيارة إلى الرياض في 19 و20 ديسمبر للمراجعة النهائية لخطة "عاصفة الصحراء". وأذكر أنني ذهبت لمقابلتهما في قاعدة الرياض الجوية مع شوارتزكوف، والسفير الأمريكي تشارلز فريمان. كانت لحظة حاسمة، إذ كان كل منّا يدرك ألاّ رجعة في القرار. كانت آلة التحالف الحربية توشك أن تدور لترسم بنيرانها مستقبل الأحداث.

          على الرغم من أن الخطة العسكرية كانت غاية في التعقيد، إلاّ أن مفهومها الأساسي كان غاية في البساطة، وتناولته كتابات عدة. تتركز الخطة على إيهام العراق بأن الهجوم الرئيسي سيُشَنّ من الشرق، بينما يأتيه ذلك الهجوم من الغرب، وهو الجنب الذي تركه العراق دون حماية تقريباً. كان من شأن عمليات الخداع والهجمات الخداعية أن تُجبِر القوات العراقية على البقاء متمركزة في جنوب شرقي الكويت خشية هجوم برمائي تشنه قوات مشاة البحرية على ساحل الكويت وهذا ما نجح الأمريكيون في ترويجه، عندما نفّذوا تدريبات تجريبية على الإنزال البحري في عُمان وصوَّرته شبكة cnn التليفزيونية. وتم تسريب خطط هذا الإنزال البحري إلى اليابان على أمل أن يلتقطها السفير العراقي في طوكيو.

          كانت الخطة تقضي بأن تنطلق قوات التحالف البرية إلى مواقعها الهجومية تحت غطاء الحملة الجوية الإستراتيجية. ويكلًف الفيلق السابع الأمريكي، الذي كان يضم أقوى الوحدات المدرعة في العالم، بالاشتراك مع الفِرقة الأولى المدرعة البريطانية في الهجوم الرئيسي، مع هجمة مساندة إلى الغرب، وثلاث هجمات مساندة إلى الشرق. يُنَفّذ الفيلق الثامن عشر المحمول جواً بالاشتراك مع الفرقة المدرعة الفرنسية الهجوم المساند غرب الفيلق السابع، بهدف الالتفاف لمحاصرة القوات العراقية في مسرح العمليات الكويتي. أمّا الهجمات الثلاث المساندة إلى الشرق فتتم كآلاتي: الهجوم المساند الأول. في أقصى الشرق، تنفّذه القوات المشتركة في المنطقة الشرقية، وإلى الغرب منها تقوم مشاة البحرية الأمريكية بالهجوم المساند الثاني. أما الهجوم المساند الثالث، فتقوم به القوات المشتركة في المنطقة الشمالية إلى الغرب من مشاة البحرية الأمريكية. والغرض من هذه الهجمات الثلاث اختراق الدفاعات الحصينة، وتدمير القوات العراقية، ومنع انسحابها. وأسنَدتْ الخطة مهمة استعادة مدينة الكويت إلى قواتي في المنطقتين الشرقية والشمالية.

سابق بداية الصفحة تالي