مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

الحرب الجويّة وَصواريخ سكود (تابع)

          ومنذ بداية هجمات سكود، أدركنا أن السبيل إلى وقف تلك الهجمات ليس تدمير الصاروخ في الجو، بل تدمير مِنصات إطلاقه (قواذفه) على الأرض. ولكن المشكلة تمثَّلت في تحديد أماكن تلك المنصات. كان ثمة قمران صناعيان أمريكيان للإنذار ضد الصواريخ في وسعهما اكتشاف الوَمِيض الناتج من إطلاق سكود وإرسال المعلومات عن مكان القاذف خلال دقيقتين من الإطلاق. ولكن القواذف المتحركة كانت تنطلق بأقصى سرعتها بعد الإطلاق لتختبئ في أماكن جُهزت لذلك الغرض. فإذا أخفقت طائرات التحالف في الوصول إلى موقع الإطلاق بالسرعة المطلوبة، فإن القواذف ستتمكن من الهرب والاختباء.

          سبّبت هذه المشكلة للتحالف إحباطاً وضيقاً شديدين، أكثر مما سببته كل حماقات صدّام الأخرى. كانت مئات الطلعات الجوية للقاذفات المقاتلة تتحول إلى غربي العراق للبحث عن مواقع الإطلاق والقواذف المتحركة. وكانت أسراب كاملة من الطائرات المزوَّدة بأحدث أنظمة الرؤية الليلية، تدور في السماء للانقضاض عليها. وعلى الرغم من الادعاءات المبالغ فيها، لم ينجـح التحالف في تدمير قواذف سكود إلا نادراً.

          وفي يوم 18 يناير، أعلن شوارتزكوف، بثقة تامة، في أول مؤتمر صحافي له أثناء الحرب أن:

"اكتشفت القوات الجوية الأمريكية، هذا الصباح، ثلاثة قواذف متحركة وعليها صواريخ داخل الأراضي العراقية، وقد تم تدميرها. وفي الوقت نفسه، اكتشفنا ثمانية قواذف متحركة أخرى في الموقع عينه، ونقوم الآن بمهاجمتها، وقد تأكد لنا تدمير ثلاثة منها، وما زلنا ماضين في مهاجَمة القواذف المتبقية...".

          أرسل إلي أحد ضباط أركاني، ممن لديهم خبرة واسعة بصواريخ سكود، تقريراً يُعَبّر فيه عن شكه في صحة ما أدلى به شوارتزكوف. وجاء في تقرير الضابط، أنه من غير المحتمل أن يحرّك العراقيون قواذفهم في وضح النهار معرضين سلاحهم الثمين للضربات الجوية. وكان يرى أن الطيار الأمريكي ربما دمر أهدافاً هيكلية، وليس قواذف حقيقية. وإذا لم تكن أهدافاً هيكلية، فربما كانت شاحنات طويلة تستخدم في نقل الصواريخ ( وهي تشبه القواذف من ناحية الشكل ). وفي اعتقاده، أن تصريح شوارتزكوف ربما قُصد به طَمْأنة إسرائيل إلى أن الولايات المتحدة تبذل كل ما في وسعها لوقف هجمات سكود. وخلص التقرير إلى أن هناك احتمالا نسبته واحد في الألف أن يكون الطيار قد دمَّر قواذف حقيقية، وإلا فان العراقيين يكونون قد فقدوا صوابهم.

          ناقشت ذلك التقرير مع شوارتزكوف، ولكنه أكد لي أن طيار القوات الجوية الأمريكية دمر القواذف المتحركة بالفعل، كما سبق أن أعلن، وأن الاستخبارات الأمريكية أكدت ذلك. ولكن لم يمضِ وقت طويل حتى اعترف الجميع بأن الأهداف التي تم تدميرها لم تكن إلاّ أهدافاً هيكلية فعلاً.

          لذلك، تعجبت عندما قرأت في كتاب شوارتزكوف ادعاءه بأن "قاذفاتنا نجحت في سحْق جميع مواقع سكود المعروفة في غربي العراق"، إذ دمرت 36 من القواذف الثابتة و10 من القواذف المتحركة. وهذا ادعاءٌ غير صحيح ويعكس خلطاً في التفكير. فبادئ ذي بدءٍ، ليس هناك ما يسمى "قواذف ثابتة". فكل قواذف صواريخ سكود متحركة، إذ توضع على عربات ذات هيكل طويل. وتستطيع القواذف إطلاق صواريخها من على الطرق، أو من الأراضي المفتوحة ( مواقع غير مجهزة ) ثم تسارع إلى الاختباء بعد الإطلاق. كما تستطيع أن تُطلِق صواريخها أيضاً من مواقع إطلاق مجهزة ومحصًنة بأكياس الرمل ومزوًدة بملاجئ منيعة لأطقم القواعد ولقائد البطارية. وقد هُوجِم الكثير من تلك المواقع المجهَّزة، من قبَل التحالف في الأيام القليلة الأولى من الحرب، ولكن القواذف المتحركة تمكنًت من الهرب وأخذت تلعب مع التحالف لعبة القط والفأر حتى نهاية الحرب. وخلُص بعض المحلًلين بعد انتهاء الحرب، خلافاً للادعاءات التي صدرت أثناء الحرب، إلى أنً القوات الأمريكية لم تنجح في تدمير قاذف متحرك واحد .

          وفي عمليات "الاصطياد الكبير" لصواريخ سكود، انهزم التحالف بفعل ذكاء الأطقم العراقية لصواريخ سكود وسعة حيلتها، إضافة إلى الظروف الجوية. كان العراقيون يطلقون صواريخ سكود في الأحوال الجوية الرديئة فقط، عندما يكون سقف السحاب عند ارتفاع 3000 قدم أو أقل. ولاحظنا الارتباط الشديد بين هجمات سكود والظروف الجوية السيئة في مواقع الإطلاق. ورأى كثير من الطيارين صواريخ سكود تخرج من حُجُب السحاب أثناء قيامهم بالدوريات الجوية. ولَمّا كانت أنظمة الأقمار الصناعية الأمريكية، التي تُستخدم في الإنذار ضد الهجمات الصاروخية، أنظمة صُمِّمت لفترة الحرب الباردة، لتمنع أية هجمات مفاجئة تشًنها الصواريخ السوفيتية العابرة القارات على الولايات المتحدة الأمريكية فإنها كانت تفتقر إلى الدقة المطلوبة لتكتشف بالتحديد مواقع الإطلاق من خلال حُجُب السحاب، ثم تنقل تلك المعلومات، بدورها، إلى الطيارين الذين ينتظرون في الجو.

          بُذِلَت محاولات عدة لمعالجة جوانب القصور تلك، وعلى وجه التحديد، من قِبَل مجموعات صغيرة من القوات الخاصة البريطانية، المعروفة باسم sas، التي كانت تجوب مناطق غربي العراق فأغارت على مواقع عدة للإطلاق، ودمَّرت بعض القواذف، وأجبرت بعضاً آخر على الانسحاب إلى العمق العراقي.

          وما أسرع ما تبين لنا أن تحديد مواقع القواذف المتحركة لصواريخ سكود، أصعب بكثير مما كنّا نتوقع، وأننا قلَّلنا من شأن تلك القواذف إلى حدَّ بعيد. فعلى الرغم من أن القوات الأمريكية كانت تعرف خصائص ذلك السلاح، إلاّ أنها لم يكن لها سابق خبرة عملية به. فلم يكن الأمريكيون يعرفون أسلوب استخدامه، ولا يمكن معرفة نقاط القوة والضعف لصواريخ سكود، إلاّ بالاستخدام العملي لوحداتها.

          حاول أحد مستشاريَّ، وقد عمل من قَبْل قائداً لوحدة صواريخ سكود لمدة سنتين، من طريق الاستنتاج المنطقي، أن يوضح الأسلوب الصحيح لتحديد مواقع إطلاق صواريخ سكود، ومن ثم تدمير القواذف في الدقائق القليلة التي تفْصِل بين إطلاق الصاروخ وإخلاء موقع الإطلاق. وفي ما يلي إيجاز مُجمَل لحساباته:

1 -

على افتراض أن العراقيين يحاولون ضرب أهداف في الرياض، رسَم شكل توضيحي تظهر فيه المدينة في مركز قوس نصف قطره يساوي أقصى مدى لصاروخ سكود المعدل، سواء أكان الحسين أم العباس.

2 -

وبالدراسة الدقيقة لخريطة المنطقة المحيطة بمحيط القوس، تمكن من تحديد مواقع الإطلاق المحتملة مع الأخذ في الاعتبار عوامل القرب من الطرق الصالحة للتحرك والأماكن الصالحة للاختباء.

3 -

ونظراً إلى أن العراقيين لا يحركون القواذف المتحركة "الثمينة" في وَضَح النهار، خلص إلى أن الوقت المحتمل للإطلاق سوف يقع بين حلول الليل ( سعت 1800 ) وأول ضوء ( سعت 0600 ). فإذا أخذنا في الاعتبار الوقت المطلوب لتحريك القواذف وصواريخها تحت جنح الظلام من مكان اختبائها إلى موقع الإطلاق ثم الإعداد لعملية الإطلاق، والوقت المطلوب لإخلاء موقع الإطلاق وتحرك القواذف إلى مكان اختبائها مرة أخرى، أمكنه أن يستنتج أن الوقت المتوقَّع للإطلاق سوف يكون بين سعت ( 1910 ) وسعت ( 520 0 ). وحقيقة، لم يطلَق صاروخ واحد خلال الحرب خارج هذين التوقيتين.

4 -

كان يعلم، من واقع خبرته، أن القواذف المتحركة يلزمها من 7 إلى 10 دقائق لإخلاء موقع الإطلاق، بينما يحتاج قمر الإنذار الأمريكي المداري إلى دقيقتين لإرسال بيانات الإطلاق. وهذا يعني أن لدى التحالف 5 - 8 دقائق لقصف مواقع الإطلاق قبل مغادرة القواذف لها.

5 -

وهذا، بدوره، يعني أن القاذفات المقاتلة للتحالف لا بد أن تكون في الجو على بعد لا يزيد على 50 - 100 كيلومتر من مواقع الإطلاق، التي تم تحديدها، انتظاراً لإشارة الإنذار حتى تكون أمامها فرصة كافية للوصول إلى مواقع الإطلاق لتمييز القواذف وتدميرها قبل هروبها إلى مخابئها.

          أَعطيتُ هذه الحسابات الدقيقة المنطقية لشوارتزكوف، واعترف الأمريكيون بأهميتها وفائدتها. كانت الحسابات مفيدة في تحديد المواقع المناسبة "للدوريات الجوية المقاتلة". ولكن تلك الجهود جميعها لم تُمَكِنّا من التغلب على قصور الأقمار الصناعية في تحديد مواقع الإطلاق بشكل دقيق، فضلاً عن الحماية الطبيعية التي كانت تتحقَّق لأطقم الصواريخ العراقية بفعل الظروف الجوية.

          ومن المفارقات العجيبة في عملية عاصفة الصحراء، أن صاروخ سكود، الذي عفاه الزمن، أصبح مَبْعَثاً لإعادة النظر في طبيعة الحرب، كما أبرز الحاجة إلى السلام في منطقة الشرق الأوسط. لقد حدا ذلك الموقف بالولايات المتحدة أن تبذل جهوداً حثيثة لوقف انتشار الصواريخ، كما شجعها على تطوير الدفاعات المضادة لها. ولعله ساعد أيضاً في إقناع بعض الإسرائيليين بأن أمنهم، في المدى البعيد، لا يتمثَّل في حيازة قدر أكبر من السلاح، بل في السعي نحو السلام مع جيرانهم واستعدادهم لدفع ثمن هذا السلام، وهو إعادة الأراضي العربية التي احتلت عام 1967.

سابق بداية الصفحة تالي