مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

الحرب الجويّة وَصواريخ سكود (تابع)

          وإلى جانب صواريخ سكود، كانت هناك مفاجأة أخرى أخرجها صدّام من جعبته في مواجَهة التحالف، وهي وصول 135 من طائراته إلى إيران. فقد هربت أول مجموعة منها يوم 26 يناير والأيام الثلاثة التي تلت ذلك، وكانت تضم 80 طائرة. ثم حدث هروب جماعي أيضاً في الفترة ما بين 6 إلى 10 فبراير. وكان بين الطائرات التي هربت مقاتلات جديدة من نوع mig - 29، وقاذفات من نوع fencer للارتفاعات المنخفضة، وهي قاذفة سوفيتية تُضارع طائرة التورنيدو والطائرة f-111، إضافة إلى بعض طائرات النقل وعدد كبير من طائرات ميج mig القديمة. وعلى كل حال، كانت تلك إضافة كبيرة إلى قوة إيران الجوية، إذ أعلنت طهران بوضوح، بعد انتهاء الحرب، أنها لا تنوي إعادة تلك الطائرات.

          توقفت القوات الجوية العراقية عن الطيران تقريباً، بعد الأيام الثلاثة الأولى من الحملة الجوية، إذ أُسقطَت الطائرات القليلة التي غامرت بالإقلاع. وعندما أدركَ صدّام ألاَّ قِبَل لقواته الجوية بطائرات التحالف، وربما لرغبته في الحفاظ على قواته الجوية للقيام بموجة شاملة ( ضربة مركَّزة ) من الهجوم الجوي في وقت لاحق من الحرب، أبقى طائراته قابعة في مخابئها المحصنة التي تبلغ600 مخبأ، اشتهر بعضها بأنه من أقوى الملاجئ في العالم قاطبة. وقصفت طائرات التحالف، فيما بعد، تلك الملاجئ باستخدام القنابل زِنَة 2000 رطل الموجهة بأشعة الليزر، فدَمّرت 150 ملجأً منها.

          اعتقد هورنر، وهو يشاهد هذه التطورات على شاشات مركز قيادته، أن ما تبقَّى من القوات الجوية العراقية سيحاول الفرار إلى دولة أخرى. وظن أن تلك الطائرات ستتوجَّه إلى الأردن نظرا إلى العلاقة الوطيدة بين صدّام والملك حسين. ولهذا السبب، عَمَدَ إلى زيادة الدوريات الجوية من المقاتلات الاعتراضية الأمريكية والبريطانية والسعودية في جنوب وغرب بغداد ولكنه أخطأ التقدير، إذ لاذَتْ الطائرات العراقية بالفرار عبْر الحدود إلى إيران، حيث الأمان.

          كان أول ما تبادر إلى فكري هو أن هؤلاء الطيارين لجأوا إلى إيران فراراً من ديكتاتورية صدّام وقد وافقني شوارتزكوف أيضاً هذا الرأي، بل ذهب إلى اقتراح وجوب حماية تلك الطائرات. وتوقَّعنا أن نسمع بإعدام طيارين آخرين في العراق فشلوا في الفرار بطائراتهم. ولكن حدثت موجة هروب جماعية أخرى إلى إيران. وهنا بدا واضحاً أن صداماً عقد صفقة مع طهران لتوفر لطائراته ملاذاً آمناً لديها. وفي تلك الأثناء، نقل هورنر "الدوريات الجوية " إلى الشرق من بغداد ونجحتْ في إسقاط بعض الطائرات العراقية، إلاّ أن أعداداً كبيرة منها تمكنت من الوصول إلى إيران سالمة.

          دُهشت، هذه المرة، لعدم قدرة التحالف، أو عدم رغبته في منع ذلك الهروب الجماعي للطائرات العراقية. كانت التحركات الجوية في المنطقة كلها، من الخليج إلى البحر الأحمر ومن المملكة حتى تركيا تخضع للمراقبة على جميع الارتفاعات، من طريق طائرات الأواكس وطائرات البحرية الأمريكية من نوع e - 2c hawkeyes، والمِنصات الأخرى، فضلاً عن الرادارات السطحية على متن حاملات الطائرات. وكانت تلك المصادر كلها مرتبطة ببعضها البعض من طريق الاتصالات وربط البيانات بالأقمار الصناعية، لتعطي "صورة جوية" آنية ( في زمن يقترب من الزمن الحقيقي ). فكان كل تحرك للطائرات المعادية يُنقَل في الحال إلى " الدوريات الجوية المقاتلة " للتحالف في الجو، سواء المنطلِقة من القواعد الجوية الأرضية أو من حاملات الطائرات. ولـم يكن في استطاعة طائرة واحدة في المنطقة كلها أن تقلِع دون أن تُكتشف. وكانت كل طائرة تخضع للمتابعة من اللحظة التي تحلِّق فيها.

          طلبت من ضباط أركاني أن يبحثوا في أسباب نجاح الطائرات العراقية في التسلل عبر شبكة الدفاع الجوي. وتوصلوا إلى ثلاثة أسباب محَتمَلة: أولاً، تَوقّع التحالف كما سبق أن ذكرت، لجوء الطائرات العراقية إلى الأردن وليس إيران، مما حدا " بالدوريات الجوية المقاتلة " على ترقٌّبها جنوب بغداد وغربها. وثانياً، قِصَر المسافة بين المطارات العراقية والحدود الإيرانية، جعل اعتراض الطائرات الهاربة متعذراً دون انتهاك المجال الجوي الإيراني. ثالثاً، كانت الطائرات العراقية تطير على ارتفاع جدّ منخفض. ولكي تتمكن طائرات التحالف من إسقاطها، كان لا بد من أن تطير، مثلها، على الارتفاع نفسه، وذلك يجعلها عرضة للنيران الأرضية. ولكني لـم أقتنع بكل تلك التفسيرات، وظل موضوع الفرار الجماعي للطائرات العراقية، وهو من أغرب أحداث الحرب، لغزاً شاذاً محيرا حتى يومنا هذا. كما كنت أيضاً أتساءل عن مصير الطيارين العراقيين الذين فرّوا إلى إيران؛ إذ اختفوا وكأن الأرض انشقت وابتلعتهم.

          جعلتني تلك الأحداث أتساءل أيضاً، إن كان في قدرة العراقيين أن يخترقوا مجالنا الجوي، إذا توافرت لديهم الجرأة. هل كانت تلك الحادثة دليلاً على وجود ثغرة في قدرات التحالف؟ وإذا كان العراقيون قادرين على الطيران إلى إيران دون أن يعترض سبيلهم أحد، أَلَمْ يكن في إمكانهم التوغُّل داخل المملكة، ولو لمسافة قصيرة؟ ومن الحقائق الغريبة، في هذه الحرب، أن صداماً، على الرغم من كل زَبَده وضجيجه، لم يستخدم قواته الجوية بشكل فعال، كما لم يستخدم مدفعيته البعيدة المدى كما ينبغي، ولا ترسانته الكيماوية كما كان متوقعاً. لقد دعا التحالف للنزال، ولكنه لم يبرز إلى القتال.

          حاولت القوات الجوية العراقية، مرة واحدة، الهجوم علينا. ففي يوم 24 يناير، وفي عملية معقَّدة تم تنفيذها بشكل جيد، أقلعت طائرتان عراقيتان من نوع ميراج f-1 في اتجاه الجنوب. وكان هناك عدد كبير من الطائرات في الجو في ذلك الوقت، طائرات عراقية تطير في اتجاه الشمال بمحاذاة الحدود الإيرانية، تطاردها دوريات القوات الجوية الأمريكية، كما كانت طائرات التحالف الأخري عائدة من فوق الخليج بعد أداء مهامها فوق البصرة وربما كانت الطائرتان العراقيتان تطمعان في ألاّ يكتشفهما الرادار وسط ذلك الزحام. وبدا كأن المقاتلتين العراقيتين تتجهان صوب ميناء الجبيل.

          وعلى الرغم من مناورتهما الماهرة تحت الطائرات الأخرى، إلاّ أن مراقب البحرية الأمريكية على متن طائرة أواكس التقطهما لحظة تحليقهما في الجو. فاتصل أولاّ بطائرة f-18 تابعة للبحرية الأمريكية، كانت تحلِّق فوق الخليج في مهمة حماية سفينة حربية أمريكية، ولكـن قائد تلك السفينة رفض التخلي عن الطائرة، وذلك مثال على تحديه للقيادة الجوية المشتركة. بعد ذلك، اتصل مراقب ال"أواكس" بدورية جوية قتالية سعودية، كانت تحلِّق جنوب الكويت وعلى الفور، انطلق النقيب عايض صالح الشمراني، الذي كان يقود طائرة f-15c تابعة للسرب الثالث عشر للقوات الجوية الملكية السعودية، خلْف طائرتيْ الميراج العراقيتين.

          وجاءت تعليمات المراقب الجوي على متن ال"أواكس": "عندما تكون جاهزاً، دمِّر.

          في تلك اللحظة رأى النقيب الشمراني وَمِيضاً تحت إحدى الطائرتين العراقيتين. فقد ألقى الطيار العراقي بحمولته لكي يتمكن من المناورة بشكل أفضل، وربما كان يأمل في أن تصيب الشظايا التي تسقط منها أية طائرة مهاجمة. وانحرف شمالاً ثم انحرف يمينا بشكل حاد. ولكن الشمراني، بقرارٍ اتّخذه في جزء من الثانية، عاجَلَه بصاروخ أسرع من الصوت aim-9 sidewinder. وبعد لحظة، رأى الطائرة الأولى تنفجر، والتقط راداره الطائرة العراقية الثانية، وهي تتجه نحوه، فأطلق عليها صاروخا آخر من النوع نفسه فدمَّرها. كانت تلك إصابة ثنائية، في أقل من دقيقة، وفيها من المهارة الفائقة ما يثير الإعجاب حقاً.

          حرصتُ على أن أقِّلد النقيب الشمراني وساماً بعد وقت قصير من عمله البطولي، وكنت على وشك أن أذهب إلى الظهران لهذا الغرض، حين علمت أن القوات العراقية في الثلاثين من يناير تسللَّت إلى مدينة الخفجي الحدودية الخالية من القوات. وهكذا، توجهت إلى الشمال حيث كان في انتظاري اختبار صارم في القيادة.

سابق بداية الصفحة تالي