مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

معركة الخفجي (تابع)

          عبرت مجموعة قتال عراقية ليلة 29 - 30 يناير الحدود السعودية - الكويتية، وتحركت بمحاذاة الساحل واحتلت مدينة الخفجي. ولم يكن في الخفجي، التي تبعد نحو عشرة كيلومترات داخل الحدود السعودية، أية دفاعات في ذلك الوقت. كان أمر احتلالها سهلاً للغاية، إذ لم يكن في الخفجي وجود عسكري للتحالف في أي شكل من الأشكال. ولكن إذاعة بغداد ومعها وسائل إعلام دولتين أو ثلاث متعاطفة مع العراق سارعت إلي تصوير احتلال الخفجي على أنه نصر مبين. ولا جدال في أن صداماً حَقّق باحتلال الخفجي مفاجأة تكتيكية. وهي المرة الثانية خلال الحرب التي يكون زمام المبادرة فيها في يد صدّام حسين، فالمرة الأولي كانت عند استخدامه صواريخ سكود.

          يُمَثّل توقيت الهجوم على مدينة الخفجي أمراً له مغزاه. فالحملة الجوية كانت لا تزال قائمة، على قدم وساق، يستعر أُوَارها منذ 12 يوماً، وما فتئت تثير مناقشات حامية داخل التحالف في شأن عدد من القضايا المتصلة بها، مثل: إلى متى يجب أن تستمر هذه الحملة الجوية؟ وكيف يتسنى لنا تقدير الخسائر الناجمة عنها؟ هل انصرف اهتمام مخطِّطي الحملة الجوية إلى تدمير الأهداف الإستراتيجية داخل العراق أكثر مما انصرف إلى إضعاف القوات العراقية التي تواجِهنا على الجبهة؟ وكان رأيي أن تُعطى الأولوية في الضربات الجوية للأهداف العسكرية القريبة من حدودنا، لا للبنية الأساسية في العراق وكنت قلقاً، بوجه خاص، من حشود المدفعية العراقية التي ظهرت فعاليتها في الحرب العراقية - الإيرانية.

          وبينما تدور هذه المناقشات، كانت الاستعدادات للحرب البرية تمضي قُدماً. انتقل مئات الآلاف من جنود الفيلقين الأمريكيين السابع والثامن عشر إلى مواقع هجومية تحت غطاء الحملة الجوية. وكانت حركة الشاحنات على طريق التابلاين شرق - غرب لا تتوقف على مدار الساعة، ولا تكاد تُرى مسافة بين شاحنة وأخرى. وكانت الفرقة السادسة المدرعة الخفيفة الفرنسية تتحرك إلى أقصى الغرب من الجبهة، مع الإبقاء على خطوط إمدادها مفتوحة من ينبع. وإلى الغرب من مواقع القوات المشتركة في المنطقة الشرقية، تقدَّمتْ فِرقتان من مشاة البحرية الأمريكية بالتبادل وأعادتا تمركز نقاط إمدادهما من ساحل الخليج إلى قواعد جديدة على بعد 100 كيلومتر إلى الداخل، في منطقتي الكبريت والخنجر. وكانت طائرات c - 130 الضخمة تحلِّق بلا توقف، ليلاً ونهاراً، لنقل الجنود والإمدادات إلى مهابط ترابية أُعِدَّت على عجل في قلب الصحراء.

          بدا واضحاً أن العراقيين كانوا آخر من يعلم عن الآلة الحربية الضخمة التي كان يجري إعدادها لتدميرهم. كان التحالف يستعد لتوجيه الضربة القاضية التي باتت قاب قوسين أو أدنى.

          وضمن هذا الإطار الزمني، حدث الهجوم العراقي على الخفجي، كسهم مارق في الظلام. هجوم يهدد بتعطيل استعداداتنا، كما يثير المخاوف لدينا، حتى قبيل ساعة الصفر، من أن صداما قد ينجح في إفساد خططنا.

          ما الهدف الذي كان يسعى صدّام حسين إلى تحقيقه من وراء ذلك الهجوم؟ رأى بعض المحلِّلين العسكريين في قوات التحالف، أن الهجوم لم يكن سوى مقدمة لهجوم واسع النطاق ينوي صدّام شنّه عبْر وادي الباطن (الوادي الجاف الواسع الموازي للحدود الغربية للكويت مع العراق)، إلا أن غياب الغطاء الجوي لدى صدّام جعل ذلك أمراً مستبعداً. وتوقَّع المتشائمون أن صداماً سيحاول التوغل بمحاذاة الساحل حتى يصل إلى الجبيل، كي يحدث صدمة نفسية تنهار على أثرها المملكة داخلياً. هل كان صدّام يسعى إلى إبهار الرأي العام العربي والعالمي، من طريق إضعاف الثقة بالجيوش والأنظمة العربية؟

          تتمتع الطريق الساحلية التي تمر بالخفجي بأهمية إستراتيجية بالغة. فهي تربط الكويت بالمملكة
والبحرين (من طريق الجسر الذي يربط الدمّام بجزيرة البحرين) وقطر ودولة الإمارات العربية المتحدة ثم عَمّان كما أن السهل الساحلي والمياه الإقليمية المتاخمة له، بما فيها من آبار للنفط وأنابيب وموانئ شحن وموانئ رئيسية، تُعَدّ المنطقة التي تستمد منها منطقة الخليج ثرواتها. وباحتلال الخفجي، امتد تهديد صدّام إلى تلك المنطقة الساحلية بأسْرها، مما أشاع شعوراً بالقلق في الرياض وفي العواصم الخليجية الأخرى.

          وثمة تفسير آخر لاحتلال الخفجي أقل إثارة للقلق، وهو اعتباره محاولة يائسة من صدّام للإمساك بزمام المبادأة وإجبار التحالف على الرد عليه. وقد أظهرت استجوابات الأسرى، بعد ذلك، أن العراقيين كانوا حريصين على أَسْر أكبر عدد من الجنود، لاستخدامهم في الضغط على التحالف ومساومته فيما بعد. كان أمل صدّام الوحيد إحداث قدْر كبير من الخسائر في صفوف قوات التحالف، يدَعي على إثره تحقيق نصر سياسي، وذلك باستدراجها إلى الدخول في معركة برية قبل أن تتضرر دفاعاته حول الكويت فلو انتظر حتي يتم تدمير دفاعاته بشكل كامل، فسوف يُحرَم من حرية المناورة، ولن يكون أمامه وقتئذٍ خيار سوى الاستسلام. وفي ضوء هذا الاستقراء، لم يكن الهجوم على الخفجي سوى محاولة لجَرّ التحالف إلى الهجوم البري، ومن ثم استدراج قوات التحالف إلى مناطق القتل العراقية حول الكويت وهو أسلوب أتقَنه العراق خلال حربه الطويلة على إيران. وعلى الرغم من أن هذا التفسير الأخير يبدو معقولاً إلى حدٍّ بعيد، إلاَّ أن أحدا لا يستطيع أن يجزم بما كان يدور في خَلَد صدّام حتى يومنا هذا.

سابق بداية الصفحة تالي