مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

حرب تحرير الكويت (تابع)

          لم تعبُر قوات التحالف إلى الأراضي الكويتية المحتلة في تزامن واحد، إذ تمَّت الحرب البرية على مراحل متتابعة. ففي الرابعة صباحاً من يوم 24 فبراير، وهو "اليوم الأول للقتال"، بدأت قوات مشاة البحرية الأمريكية، إلى الغرب من قواتنا، فتْح الثغرات في الدفاعات العراقية. وفي الوقت نفسه، تمكنتْ القوات المشتركة في المنطقة الشرقية من فتْح ستة ممرات في الدفاعات العراقية أيضاً جنوبي الكويت بينما تقدم اللواء الثاني من الحرس الوطني السعودي بقيادة العقيد تركي عبد المحسن الفرم، على الطريق الساحلية إلى الخفجي بمهمة الدفاع عن المدينة. وكانت كتيبة من مشاة البحرية السعودية، بقيادة العقيد عمار القحطاني، تتولى حماية الجانب الأيمن لقواتنا ( المواجِه للخليج ). وعلى بعد نحو 500 كيلومتر، في الجناح الغربي من الجبهة، اندفعت الفِرقة السادسة المدرعة الخفيفة الفرنسية، والفِرقة 82 المحمولة جواً، والفِرقة 101 اقتحام جوي، إلى الأمام في حركة التفاف لتقطع خطوط المواصلات على نهر الفرات وتقطع طريق الهرب على العراقيين.

          كان مقرّراً أن يبدأ الهجوم الرئيسي في وسط الجبهة بالفيلق السابع الأمريكي والفِرقة الأولى المدرعة البريطانية، بعد 24 ساعة من بدء الهجوم البري، أي في "اليوم الثاني للقتال"، متزامناً مع هجوم القوات المشتركة في المنطقة الشمالية، وهي القوات المصرية والسورية والسعودية والكويتية.

          اخترقت القوات المشتركة في المنطقة الشرقية، ومشاة البحرية الأمريكية إلى الغرب منها، خط الدفاع العراقي الأول بسرعة كبيرة دون أن تواجهها مقاومة تُذكر. وفي ضحى يوم 24 فبراير، وجدت تلك القوات نفسها محصورة بين خطيْ الموانع الأول والثاني، وكانت تخشى أن تصبح هدفاً للمدفعية العراقية، أو أن يبادرها العراقيون بهجوم مضاد من الشرق أو من الغرب. وكان السؤال الذي طرح نفسه، هل تواصل القوات تقدمها وتهاجم خط الموانع الثاني؟ كانت الإجابة عن هذا السؤال تعتمد بشكل رئيسي على مدى توافر المساندة الجوية. كما كان على تلك القوات التأكد من أن العراقيين لا يقومون بالتجمع استعداداً لشنّ هجوم مضاد.

          وفي مثل ذلك الوقت من السنة، تُهب الرياح عادة من الشمال الغربي في اتجاه الجنوب الشرقي وتكون السماء صافية. لكنّ المطر انهمر بغزارة يوم الهجوم، وتلبَّدت السماء بالغيوم. يضاف إلى ذلك، أن سُحُب الدخان السوداء التي كانت تتصاعد من آبار النفط الكويتية حَدّت من مدى الرؤية الأفقية إلى 100 متر فقط. وكان على قواتي وقوات مشاة البحرية الأمريكية أن تتريث قليلاً وتتخذ الاحتياطات اللازمة، قبل الهجوم على عدو متفوِّق عدداً وفي ظروف جوية رديئة ورؤية محدودة. وكانت تقارير الاستخبارات الأمريكية تشير إلى أننا سنواجِه ما بين 9 إلى 11 فِرقة عراقية. كانت تلك هي الظروف التي تحيط بالقرار السريع الذي كان علينا أن نتخذه ذلك الصباح، هل تهاجم القوات خط الموانع الثاني أم لا؟

          وفجأة، تَغَيّر اتجاه الريح، وبدأت تهُب من الجنوب الشرقي إلى الشمال الغربي. وتحسنت الرؤية الأفقية بشكل ملحوظ خلال ساعة واحدة. وبدأت طائرات التحالف تشنّ هجمات مكثّفة على المواقع العراقية. أدّى هذا التغيُّر في الظروف الجوية إلى إبعاد الدخان الكثيف والأبخرة السامة المتصاعدة من النفط المشتعل والغازات الخانقة الأخرى، من فوق خطوطنا. وأيقنت أنه حتى إن أقدم صدّام على استخدام الأسلحة الكيماوية، فإن التغير في اتجاه الرياح سيجعل قواتي في منجّى منها ويوقِع قوات صدّام في مغبَّة أعماله. وشعرت في تلك اللحظة بأن الله معنا وناصرنا ونزلت على قلبي سكينة وراحة بدّدتا كل مخاوفي. ولولا أن أدركتنا رحمه الله في تغير اتجاه الرياح صبيحة ذلك اليوم، لوجدتْ قواتي وقوات مشاة البحرية الأمريكية نفسها في وضع لا تحسد عليه.

          لا شك أن وَقْع ضربات التحالف الجوية كان عنيفاً من الناحيتين النفسية والمادية. فالقوات العراقية كانت تواجِه مأزقاً حرجاً منذ بداية الحرب، كأنما يأتيها الموت من كل مكان. فهي هالكة إذا ظلّت في حصونها، هالكة إذا غادرتها، هالكة إذا فتحت نيران مدفعيتها الثقيلة. أمّا إذا حاولت الفرار في اتجاهنا، فكان كتائب الإعدام الصدّامية تقف لها بالمرصاد.

          تقدمت قواتنا ونجحت في اقتحام خط الموانع الثاني، قبل حلول ظلام يوم 24 فبراير، ومع أنها تعرضت لنيران المدفعية، إلاّ أن جنود المشاة العراقيين كانوا يسارعون إلى الاستسلام، سوى نفر قليل منهم، عندما تقترب قواتنا من مواقعهم. وسارت الأحداث، في اليوم التالي، على المنوال نفسه. وعلى الرغم من حدوث بعض المعارك المحدودة، إلاّ أن التوجُّس من هجوم عراقي مضاد تبخر ولم يعد له وجود. أصبحت المشكلة التي تواجهنا وأدَّت إلى إبطاء تقدم قواتنا، هي التعامل مع الأعداد الكبيرة من الأسرى العراقيين وترحيلهم خلْف خطوط القتال. بدا واضحاً أن الحملة الجوية التي استمرت 38 يوماً قد آتت ثمارها وأحدثت تدميراً فاقَ كل تقديراتنا. فلم تصادف قواتنا مقاومة تذكر من الفِرق العراقية التي أدركت أن الحرب قد انتهت.

          في منتصف ليلة الخامس والعشرين من فبراير، أمر صدّام قواته بالانسحاب من الكويت وكان هذا هو القرار الوحيد الصائب الذي اتخذه صدّام طوال الأزمة، ولكن قواته في ذاك الوقت كانت تلُوذ بالفرار.

          يقال دائماً إن أكثر الناس بُغضاً للحرب هم العسكريون الذين يشنّونها، ولا يعرف مَثَالِب الحرب إلاّ من عاشها وعايشها واكتوَى بنارها، ولا يُنَبئُك مِثْلُ خبير. لمست بنفسي قسوة الحرب ووجْهها القبيح عقب نهايتها ببضعة أسابيع، أثناء زيارتي إلى مستشفى يعالج فيه ضباط وجنود تعرّضوا لحروق شديدة، بينهم الرقيب يحيي أحمد محمد البارقي، من سلاح المهندسين، الذي فَقَدَ في القتال كلتا عينيه ويديه. ظهر لي جلياً، في تلك الزيارة، شبح الحرب المخيف، كما ظهرت الشجاعة النادرة لأولئك الذين خاضوا غمارها.

سابق بداية الصفحة تالي