مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

الفشل في صَفوان (تابع)

          كان مقرراً أن أتوجَّه إلى صفوان في طائرة عمودية في صباح يوم 3 مارس ولَمّا كان الاجتماع سيأخذ طابعاً إعلامياً في المقام الأول، فقد أصدرتُ تعليماتي إلى اللواء يوسف مدني، مدير التخطيط في قيادة القوات المشتركة، بالذهاب ومعه بعض من ضباط أركاني، إلى صفوان الرابعة صباحاً، أي قبل موعد وصولي بوقت كافٍ، للتأكد من سلامة الترتيبات التي كان يجري إعدادها. وكان يعنيني أن يتأكد - بوجه خاص - أن وضعي وشوارتزكوف سيكون على قدم المساواة من جميع الوجوه، صغيرها قبل كبيرها، وأن أيًّا منّا لن يتصدر طاولة المفاوضات. ومن المفارقات الطريفة أن اللواء يوسف عندما وصل إلى " مسرح " الاجتماع في صفوان ، وجد رجال شوارتزكوف قد سبقوه إلى هناك لتنفيذ المهمة نفسها!

          وحدث صراع خفيّ مردّه إلى اعتداد كلّ منا بذاته اعتداداً مبالغاً فيه، عندما هبطت طائرتي في صفوان قبل الحادية عشرة بقليل، إذ كان مقرّراً أن تبدأ المباحثات في الحادية عشرة والنصف. ولاحظت عند وصولي أن أرض الصحراء المغبرة بدأت تكسوها الأعشاب والحشائش المتناثرة، وفي الأفق الجنوبي كانت ثمة سحابة كثيفة من الدخان المتصاعد من آبار النفط الكويتي المحترقة. وعندما فُتِح باب الطائرة الملكية العمودية أخبرني المقدم طيار عايض الجعيد، مدير قسم القوات الجوية في قيادة القوات المشتركة، أن مجموعة الخيام التي سيُعقد فيها الاجتماع تقع على مسافة بعيدة في نهاية المدرج، وأن ضابطاً أمريكيّا برتبة مقدّم ينتظرني في سيارة جيب ليرافقني إلى مكان الاجتماع.

  سألت المقدم عايض: "أين هبطت طائرة شوارتزكوف؟".
فأجاب: إِنها تقف بالقرب من الخيام.

          فقلت له:" إذاً، لا بد أن تتحرك طائرتى حتى هناك، وإلاّ فسوف أعود إلي الرياض علي الفور".

          كنت أعلم أن مراسلي وكالات الأنباء العالمية ووسائل الإعلام المختلفة يحتشدون هناك وسيشهدون وصولي. فقرّرتُ الإصرار علي موقفي.

          وبعد فترة قصيرة، سُمِح للطائرة بالتحرك والوقوف بالقرب من موقع الخيام. وكان الفريق باجونيس في استقبالي، ورافقني إلى مكان الاجتماع. وكانت تلك آخر محاولة من محاولاتي للتعبير علناً عن معنى " القيادة الموازية!".

          استُقبل الوفد العراقي على بعد نحو ثلاثة كيلومترات خارج صفوان ، وجِئَ به إلى مكان الاجتماع فـي عربات عسكرية مدولبة (humvees) ترفع علم جمعية الهلال الأحمر، وتحت حـراسة أمريكية مشددة. تزأر، إلى جـانب عرباتهم، عربتا قتال مدرعتان bradley ودبابتان miai، بينما تحلّق فوق رؤوسهم طائرتان عموديتان مسلحتان من نوع apache .

          كـنت وشوارتزكوف قلِقَيْن فـي شأن الأسلحة التي قد يُحضرها الضباط العراقيون معهم. فلم يكن مستبعداً أن يكون أولئك الضباط فريقَ اغتيال في مهمة انتحارية. ولكي نخضعهم للتفتيش، دون أن نعرّضهم لإهانة لا داعي لها، اتفقنا أن نخضع جميعنا للتفتيش، من قِبَل حراسنا بطبيعة الحال. خضع شوارتزكوف للتفتيش أولاً، ثـم سَلّمت مسدَسي إلى النقيب زكـي ، قائد مجموعة الأمن والحماية الخاصة، وتم تفتيشي أمام العراقيين. ثم وافق أعضاء الوفد العراقي، على مضض، على تفتيشهم، كما كان عليهم أن يسيروا بين صفَّين من الكلاب المدربة على كشف المتفجرات. ودَلَفْنا واحداً تلو الآخر إلى خيمة الاجتماعات التي كانت تحيط بها الدبابات وعربات القتال المدرعة وصفوف من الجنود الأمريكيين بلباس الميدان الكامل، وأخذنا أماكننا حول طاولة من الخشب الأحمر. لـم يُسمح بدخول أي سلاح إلى خيمة الاجتماع سوى السلاح الشخصي الذي كان يحمله النقيب زكي ومساعده الملازم أول سلطان أحمد الصالح، واثنان من حرس شوارتزكوف.

          جلست وشوارتزكوف جنباً إلى جنب، وإلى يمينه جلس مترجمه. وجلس أمامنا، على الطرف الأخر من الطاولة، الضابطان العراقيان ومترجمهما بالزي العسكري الشتوي الأخضر الأدكـن. وخلْف العراقيين، أُعد عدد من المقاعد المعدنية القابلة للطيّ لجلوس بقية أعضاء الوفد العراقي. أوضح الفريق سلطان هاشم أحمد أن التدمير الذي لَحِق بالطرق والجسور حال دون حضور أعضاء الوفد الآخرين. وكـان يجلس خلفي و شوارتزكوف جميع قـادة قـوات التحالف وكبار الضباط الأمريكيين. الفريق السير بيتر دي لابليير من بريطانيا ، والفريق مايكل روكجوفر من فرنسا واللواء صلاح حلبي من مصر واللواء علي حبيب من سوريا و اللواء جابر الصباح من الكويت وقادة آخرون من إيطاليا وكندا ودول مجلس التعاون الخليجي وبلدان أخرى. وكان الجو حارّاً خانقاً في تلك الخيمة المكتظة بالحضور.

          أمضى باجونيس الليلة كاملة، يعاونه فريق من الضباط والأفراد الأمريكيين، في تجهيز المكان ونصْب الخيام. وبدت علامات الإرهاق واضحة عليه بعد ذلك الجهد كله. وما أن بدأت المناقشات تأخذ من مسارها مع العراقيين، حتى نال منه الحرّ الخانق واستبدّ به الإرهاق الشديد، فما لبث أن راح في إغفاءة سقط على آثرها من كرسيه وارتطم بالأرض. ولحسن حظه، كان المصوِّرون الذين سجلوا الدقائق الأولى لافتتاح الاجتماع قد غادروا الخيمة، فمضت سقطته تلك دون أن تُسجَّل.

سابق بداية الصفحة تالي