مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

الفشل في صَفوان (تابع)

          بدا واضحاً، منذ البداية، أن الوفد العراقي كانت لديه تعليمات بأن يكون ليّن الجانب، إذ كان صدّام حريصاً على التخلص من الضغط العسكري لقوات التحالف بأسرع وقت ممكِن. ورداً على ملاحظات شوارتزكوف التي افتتح بها الاجتماع، قال الفريق سلطان ، الذي برز على الفور كمتحدث رئيسي، أو قُلْ إن شئتَ المتحدث الأوحد باسم العراقيين، إنه مُخَوّل العمل على جعل الاجتماع "ناجحاً يسوده جو من التعاون".

          جرت المباحثات وَفـق وثيقتين. شملت الوثيقة الأولى البنود المبدئية للاجتماع، وقد أُبلغت بها الحكومة العراقية من طريق الأمريكيين في الأول من مارس. أمّا الوثيقة الثانية فهي قرار مجلس الأمن رقم 686 نفسه الذي صدر مساء الثاني من مارس، قبل اجتماعنا بساعات قليلة، بأغلبية أحد عشر صوتاً مقابل صوت واحد هو كوبا وامتناع ثلاثة أعضاء عن التصويت، هم الصين والهند واليمن. وكان القرار يلزم العراق بأمور عدّة من بينها ما يلي:

          وفي ضوء الخطوط العريضة لهاتين الوثيقتين، كان مسار المباحثات معروفاً ومتوقَّعاً إلى حدَّ كبير، إلاّ أن موضوعاً مهمّاً طفا على السطح فجأة ولـم يكـن مُدرَجاً ضمن موضوعات جدول الأعمال وكانت له عواقبه المهمة، كما سأروي بعد قليل.

          اختار شوارتزكوف أن يبدأ المباحثات بمناقشة موضوع أسرى الحرب.

          قال: " أول موضوع نريد مناقشته هو موضوع أسرى الحرب. نريد منكـم الأمور التالية. أولاً، السماح للجنة الدولية للصليب الأحمر بالاتصال الفوري بأسرانا المحتجزين لديكم".

          أبدى الفريق سلطان موافقته الفورية على طلب شوارتزكوف. وقال: "سيتم تنفيذ ذلك". وأردف قائلاً: "كانت تلك وستظل نية العراق".

          أثار شوارتزكوف، بعد ذلك، موضوع ترتيبات الإفراج عن أسرى الحرب، عندئذٍ قال الفريق سلطان: "إننا مستعدون لإطلاق أسرى الحرب جميعهم على الفور، وبالطريقة التي يراها الصليب الأحمر مناسبة".

          فقال شوارتزكوف: "هل تقصد أن هذا الأمر برُمَّته ينبغي أن يُترَك في أيدي لجنة الصليب الأحمر للفصل فيه؟".

          أجاب الفريق سلطان: "بكل تأكيد وفوراً". وأضاف: "إننا على استعداد لبدء إطلاق الأسرى على الفور، وفي المكان الذي ترتئيه لجنة الصليب الأحمر ".

          بعد ذلك، أثَرتُ قضية الأسرى من المدنيين الكويتيين المحتجَزين في العراق وكان الموضوع يهمني إلى حدّ بعيد. وتساءلت: "كيف سيغادرون العراق وهـم لا يندرجون تحت اسم أسرى الحرب؟".

          فَرَدّ الفريق سلطان: "أرجو أن تتحدث بقدر أكبر من التحديد".

          فأجبته: " إنني أَتحدث عن 5000 كويتي أو أكثر أُخذوا عنوة من الكويت ما وضعهم؟ هل هم أسرى أم لا؟".

          أجاب الفريق سلطان بأنه سيوافينا بالأعداد الكاملة لأسرى الحرب الكويتيين. ولم تكن تلك الإجابة شافية بالنسبة إليّ. بدا لي كما لو كان يتعمد الخلط بين أسرى الحرب من العسكـريين، والمدنيين المخطوفين. قلت له إنني أريد أن أعرف وضع المدنيين الكـويتيين الذين نُقلوا إلى العراق قسْراً، والذين لا يَقِلّون أهمية، في نظري، عن أسرى الحرب.

          أجاب الفريق سلطان قائلاً: "عندما بدأت الحرب، اختار كثير من الكويتيين من أصل عراقي، الذهاب إلى العراق ". وأضاف في محاولة منه للمراوغة: " إن المُهِـم في الأمر هو تبادل أسرى الحرب، وسيتولى الصليب الأحمر هذه القضية ".

          فأجبته إجابة حاسمة، أن الذي يعنينا هو أعداد وأسماء المدنيين الكـويتيين الذين أُخذوا إلى العراق قسْراً. ولا بد من إدراج هؤلاء في قائمة تبادُل أسرى الحرب.

          قال الفريق سلطان: "بالنسبة إلينا، سوف يتِـم إطلاق جميع الأسرى . أمّا الكويتيون المقيمون في العراق ففي إمكانهم البقاء أو المغادرة، كما يرغبون ".

          قلت له: "لا بد أن نحيط بكل الكويتيين المقيمين في العراق يجب أن تتولى لجنة دولية مسألة تمييزهم والتحقُّق من رغبتهم في العودة أو البقاء".

          الفريق سلطان: "نعم. ستتولى لجنة الصليب الأحمر الدولية هذه المهمة، ويمكن للراغبين في مغادرة العراق الاتصال بتلك اللجنة".

           الفريق شوارتزكوف: "أعتقد أن النقطة المهمة التي يجب أن نتفِق عليها هي وجوب معاملة كل من أُخذ قسراً معاملة أسرى الحرب، وهذا أمر نتفِق عليه من ناحية المبدأ".

           الفريق سلطان: "نحن لـم نأخذ أحداً رغماً عن إرادته. ولكن إذا كانت ثمة حالة من هذا القبيل، فسوف تعامل معاملة أسرى الحرب. أمّا إذا كان هؤلاء الكويتيون من أصل عراقي، وكانوا يعيشون هناك ( أي الكويت ) فلهُم الحق في العودة إليها أو البقاء في العراق حسب رغبتهم".

          الفريق أول شوارتزكوف: "لا خلاف على هذه النقطة، بالتأكيد إذا رغب شخص بمحض إرادته أن يعيش في العراق فالأمر متروك لاختياره".

           الفريق سلطان: "سنوافيكـم بقائمة أسماء أسرى الحرب، وستكون هذه القائمة دقيقة. وليس لدينا أي أعداد أخرى غيرها".

          وبعد لحظة، التفت إليّ شوارتزكوف وقال: "أعتقد أن القضية، لكلا الجانبين، هي مَنْ يريد العودة ومَنْ يريد البقاء. ومن المحتمل أن تنتهي المسألة إلى تعيين وسيط مهمته التأكد من أن الكويتيين الموجودين في العراق في إمكانهم الاتصال ب الصليب الأحمر ". ثم التفتَ إلى الوفد العراق ي وقال: "إذاً، اتفقنا على أن الصليب الأحمر سيتولى مهمة التثُّبت من أمر من يريد البقاء ومن يريد العودة، ومن ثم يتولى إعادة الراغبين في العودة".

           الفريق سلطان: "إن اتفاقية جنيف واضحة تماماً لنا ولكـم... نحن مستعدون من هذه اللحظة أن نبدأ عملية التبادل من طريق الصليب الأحمر . وكل اقتراح خارج هذا الموضوع، يجب أن يُتّفَقَ عليه في حينه".

           الفريق أول شوارتزكوف: "إذاً، لا يوجد لديّ أي اعتراض، ما دمنا سنبدأ فوراً تبادُل الأسرى من طريق الصليب الأحم ر".

          وبعد هنيهة التفت إليّ شوارتزكوف مرة أخرى، وسألني:"هل لديك أية تساؤلات أخرى في شـأن الأسرى؟".

          فسألت شوارتزكوف: "عندما نتحدث عن الأسرى، هل يدخل في ذلك المدنيون؟".

           الفريق أول شوارتزكوف: "نعم... أعتقد أننا اتفقنا على ذلك".

          فقلت: "وماذا عن الكويتيين الذين دخلوا العراق مع الجيش العراقي؟".

          الفريق سلطان: "سبق أن قلت لكـم، كل من دخل أرضنا بمحـض إرادته سيغادرها بمحض إرادته كـذلك. وأمّا أسرى الحرب، فسنوافِيكـم بأعدادهم وأسمائهم".

          قلت: "أريد أن أركّز في هذه المباحثات على أهمية هذه النقطة".

          الفريق سلطان: "إنني أكرّر أن كل من دخل العراق لديه الحرية في أن يخرج منه. أمّا أسرى الحرب، فسيُطلَقون وسيُعلَن عن ذلك في حينه، وليس هناك أية مشكلة".

          الفريق أول شوارتزكوف: "ولكن ينبغي أن يتمكن كل من دخل العراق منذ بداية هذا الصراع، من الاتصال، على الأقل، ب الصليب الأحمر للتحقُّق من رغبته في العودة أو البقاء، وإعادته إذا رغب في ذلك ".

          الفريق سلطان: " من الواضح أن الصليب الأحمر سيكون قادراً على التحقُّق من هذه الرغبة، لأننا قلْنا إن الأمر سيتِم من طريقه، وسنعلن ذلك من جانبنا وسيعلنه الصليب الأحمر من جانبه أيضاً ".

          أوردت الحوار الذي جرى في شأن المدنيين الكويتيين المحتجَزين في العراق كاملاً وبنصه لأُبيِّن أنه، على الرغم من جهودنا المتكررة، لم تتِم إلى الآن تسوية ذلك الأمر بصورة مرضية. فلم نتمكن من الحصول على التزام عراقي صريح بتزويدنا بأعداد وأسماء الكويتيين المدنيين الذين أُخذوا إلى العراق بل إن الفريق سلطان أكّد في قوله إنه لا توجد لدى العراقيين أية أعداد من المدنيين الكويتيين بخِلاف أسرى الحرب. كما لم نحصل على وعْد قاطع بإعادة جميع المدنيين إلى الكويت وتُرِك الأمر للكويتيين في العراق للاتصال ب الصليب الأحمر إذا ما رغبوا في العودة إلى وطنهم. ولكن من شأن هذا الاتفاق في بلد ك العراق أن يجعل مصير أولئك الكويتيين رهْناً بنزوات الحكومة العراقية وأهوائها. كانت مقولة الفريق سلطان بأن أحداً لم يؤخَذ إلى العراق قَسْراً، كذبة واضحة ونذيراً بأن هذه المشكلة لن تُحلّ بسهولة، إذ لا تخفَى على أحد حالات الاعتقال والترحيل الكثيرة للمدنيين الكويتيين أثناء الاحتلال العراقي، بما في ذلك مجموعة كبيرة احتُجزت ورُحِّلَتْ قبل نهاية الصراع بأيام قلائل.

          بادر العراقيون، بعد اجتماع صفوان مباشرة، إلى إطلاق أكثر من ألف معتَقَل من المجموعة الأخيرة، في ما سُمِّي بـ " إجراء يستهدِف بناء الثقة "، كما سمحوا للجنة الدولية للصليب الأحمر بزيارة وتسجيل وإعادة عدد كبير آخر منهم. وبلغ عدد المُفْرَج عنهم من المدنيين وأسرى الحرب أكثر من 6500 كويتي. كما نجح كثير من المعتقلين الكويتيين الآخرين، في الهرب من المعتقلات العراقية، في الأسابيع التالية خلال الفوضى التي نجمت بعد اندلاع التمرد في جنوب العراق وعادوا إلى بلادهم سيراً على الأقدام في أغلب الأحوال.

          ولكن، وحتى وقت كتابة هذه السطور، لا يزال نحو 600 كويتي في عداد المفقودين، وُيعتقد أن بعضاً منهم يرزح في سجون العراق أو يختبئ داخل العراق أو قَضَى نَحْبَه. ولا تزال الحكومة العراقية ترفـض إعطاء بيانات دقيقة عنهم، وتنكِر وجود كويتيين في سجونها، إلاّ أن منظمة حقوق الإنسان أصدرت في 8 سبتمبر عام 1993 تقريراً مفاده أن " هناك دلائل قوية تشير إلى أن كثيراً من الذين أَسَرَتهم القوات العراقية أثناء احتلال الكويت وتم نقلهم بعد ذلك إلى العراق لا يزالون قيد الأسْر".

          عندما أعود بالذاكرة إلى الوراء، إلى مباحثات صفوان ، يتَّضح لي أن الفريق سلطان عندما وعَدَ بإعادة أسرى الحرب بشكلٍ فوري، قد نجح في التهرب من إعطائنا إجابة واضحة وصريحة عن مصير المدنيين الكويتيين. وكان علينا أن نُجبر العراقيين على الكشف عن أعداد وأسماء كل الكويتيين الذين اعتُقِلوا على يد القوات العراقية. وإني أشعر بالأسف أن تلك القضية لم تَنَل حظها الكافي من التركيز والإصرار أثناء المباحثات. ولعل السبب في ذلك يرجع إلى الجـو غير الرسمي، أو قُلْ إن شئت الجو الوُدِّي الذي ساد المباحثات، فبدلاً من أن نُملِي إرادتنا على العراقيين، دخلنا معهم في مناقشات. كنت أشعر أن من واجبي ألاّ أختلف مع شوارتزكوف على الملأ. وكان من الممكن أن يؤدِّي الاستطراد في النقاش في شأن موضوع الكويتيين المحتجَزين إلى اختلافنا على رؤوس الأشهاد. كـما اقترح شوارتزكوف، بدوره، وضْع حد لتلك المناقشة، ويبدو أنه أراد أن يتجنّب احتدام المناقشة بيني وبين الفريق سلطان.

          لم أكن راضياً عن ذلك الموقف أبداً. كـان في وسع الولايات المتحدة أن تعطي إنذاراً لصدام: " أطلِق سراح المحتجَزين من الكـويتيين فـوراً، وإلاّ سنستأنف الحرب!". ولكنها لم تفعل ذلك، وأضاعت فرصة لا تعوَّض.

          أمّا الأمور الأخرى، فتمَّت معالجتها بنجاح أكـبر. تسلمنا من العراقيين قائمة بأسماء أسرى الحرب المحتجَزين لديهم، وكذلك جثث القتلى والشهداء، وكان بعضها مجهول الهوية، وبعضها الآخر لم يُدفن بعد. وذُهل الوفد العراقي عندما أخبرناه بأن لدينا أكثر من 60 ألف أسير عراقي. تسلَّمنا منهم أيضاً خرائط حقول الألغام في الكويت وفي المياه المحيطة بها. أخبرنا العراقيون أيضاً بمواقع مخازن الذخيرة الرئيسية. وتعهدوا بإيقاف جميع هجمات صواريخ سكود.

          تلَت ذلك مناقشة في شأن ضرورة الفصل بين القوات الأمريكية والعراقية في الخطوط الأمامية تجنباً لأية اشتباكات في المستقبل. واحتجّ الفريق سلطان على المعركـة التـي وقعت صباح يـوم 2 مارس، وراح ضحيتها كثير من العراقيين، وقال إن الهجوم وقع على القوات العراقية أثناء انسحابها. وأشار أيضاً إلى أنه في صفوان نفسها، أُجبرت الوحدة العراقية التي كانت تحتل مهبط الطائرات على الانسحاب، على الرغم من أن وقف إطلاق النار كـان ساري المفعول. كـما أوضح أنه لـم يتوقع دخول قوات التحالف إلى الأراضي العراقية بعد أن أعلن العراق انسحابه من الكويت وكان شوارتزكوف حريصا على ألاّ ينزلِـق إلى مناقشات تتعلق بتلك الشكاوى.

          كـان الفريق سلطان حريصاً على أن يحصل على تأكيدات بأن الخـط الذي اقترحه شوارتزكوف للفصل بين القوات المتضادة، والذي كان مقرَّراً أن تبتعد عنه القوات على كلا الجانبين لمسافة 1000 متر، لن يكون خطّاً دائماً، ولن تكون له علاقة بترسيم الحدود.

          أجاب شوارتزكوف قاتلاً: " إطلاقاً... وأؤكد لك أنه لا علاقة لهذا الخط بالحدود، ولا علاقة له بالحدود الدائمة. فهو لا يعدو أن يكون إجراءً أمنياً. كما أؤكد لك أننا لا ننوي الإبقاء على قواتنا بشكلٍ  دائم في الأراضي العراقية، إذا تم توقيع قرار وقف إطلاق النار".

          بعد ذلك بدقائق عاد شوارتزكوف إلى الموضوع نفسه، فقال: " هذا وعد مني، أقسم لك، ليس لدينا نية أن يكون هذا خطّاً دائماً!".

          بين تلك المداخلات، حدث نقاش قصير بين الفريق سلطان والفريق أول شوارتزكوف تمَّخض عن النقطة الوحيدة المهمة والخطيرة في المباحثات.

          سأل الفريق سلطان إن كنّا نسمح للطائرات العمودية العراقية بالتحليق في سماء العراق وادّعى أن ذلك " لحاجتهم إلى نقل بعض المسؤولين الحكـوميين وغيرهم من مكان إلى آخر، لأن الطرق والجسور قد دُمرت ".

           أجابه شوارتزكوف قائلاً: " ما دامت تلك الطائرات لن تحلّق فوق مواقعنا، فلا مانع من ذلك على الإطلاق. سنسمح بتحليق الطائرات العمودية، وهذه نقطة في غاية الأهمية، وأريد التأكد من تسجيلها في محضر الاجتماع. يُسمح بالتحليق فوق العراق للطائرات العسكرية العمودية فقط، دون المقاتلات أو القاذفات ".

          قال الفريق سلطان: " إذاً، أنت تعني أن الطائرات العمودية المسلحة يمكنها أن تطير فـي سماء العراق وليس المقاتلات؟ لأن الطائرات العمودية تؤدي الغرض نفسه، أي تنقل أشخاصاً أو...".

          قاطعه شوارتزكوف قائلاً: " نعم... سأصدر تعليماتي إلى قواتنا الجوية بألاّ تطلِق النار على أية طائرة عمودية تحلّق فوق العراق فـي ما عدا المنطقة التي نتمركز فيها، أمّا إذا كانت تحلّق فوق المنطقة التي تحتلها قواتنا، فمن الأفضل ألاّ تكون مسلحة، وأن تحمل علامات مميزة برتقالية اللون على جانبيها كإجراء أمني إضافي ".

          وبينما الجلسة توشك أن تنتهي، ودون أن يثير الفريق سلطان تلك النقطة مرة أخرى، كـرَّر شوارتزكوف تعهده الذي قطعه على نفسه، قائلاً: " من جانبنا، لن نهاجـم أية طائرة عمودية داخل العراق !".

          ولا يخفَى على أحد، أن هذا التنازل المُهم كانت له عواقب وخيمة، لا سيما على أهل البصرة وجنوب العراق الـذين وجـدوا أنفسهـم فـي مواجهة مدافـع طائرات صدّام العمودية، عندما أعلنوا تمردهم بعد انتهاء الحرب بفترة قصيرة.

          نجـح الفريق سلطان في دسّ طلبه، على نحو مفاجئ، بمكْر ودهاء، كما لو كان أمراً غير ذي بال. وسارع شوارتزكوف إلى الموافقة عليه بالطريقة المفاجئة نفسها. فلم يناقش الأمر معي، أو يَسْعَ إلى معرفة وجهة نظري، سواء قبل الاجتماع أو خلاله. كان على شوارتزكوف أن يجعل موافقته مشروطة بأن يكـون تحليق تلك الطائرات للأغراض السلمية، وألاّ تكون مسلحة. ولكنه لم يفعل. وأعتقد أنها زلَّة ندِم عليها بعد ذلك.

          دُهِشْت عندما سمعت شوارتزكوف يسمح للعراقيين باستخدام طائراتهم العمودية المسلحة. كنت أشعر بأن ذلك الأمر خطأ كل الخطأ. ولكنني لم أعرب عن وجهة نظري في الحال للسبب نفسه الذي دفعني إلى عدم الاستمرار في الإلحاح في موضوع عودة المدنيين الكويتيين. كنت أتجنَّب الاختلاف مع شوارتزكوف على الملأ، إذ لم أكن أدري توجَّه حكومتي في ذلك الشأن. ولم أتطرق إلى ذلك الموضوع حتى بعد انتهاء المباحثات لعدم جدوى النقاش في شأنه، فقد سبق السيف العذل.

          وكما سبق أن ذكرت، كنت وشوارتزكوف قد اتفقنا، في الليلة السابقة على مباحثات صفوان ، على الموضوعات التي سنتطرق إليها، وقسّمناها بيننا. ولم ترد فيها قضية الطائرات العمودية من قريب أو بعيد. ولم يكن الموضوع ضمن جدول الأعمال أصلاً. وربما أُثيرت الشكوك حول الحوار الذي دار بين الفريق سلطان وشوارتزكوف فَيُنْظر إليه على أنه أشبه بالأسئلة والأجوبة المُعَدة مسبقاً. وطبقاً لهذه النظرية، فلعل الأمريكيين توقعوا إثارة هذا الموضوع فأَعَدوا إجابتهم عنه. أو لعلّ شوارتزكوف تأثر بالجو الوُدَّي للمفاوضات، فشعر بأن العراقيين يستحقون أن يُمنحوا تنازلاً، مكافأة لهم بعد أن لَمَسَ تعاونهم في كل القضايا الأخرى، مثل تبادل الأسرى، وإعادة جثث القتلى والشهداء، والفصل بين القوات، وتحديد مواقـع حقول الألغام.

          وثمة فرضية بعيدة الاحتمال، ذُكرت في مقالة (*) نشرتها إحدى الصحف الأمريكية، تدِّعي أن شوارتزكوف سمح للعراقيين باستخدام طائراتهم العمودية اعتقاداً منه أن وحدات الطائرات العمودية يمكن أن تقود انقلاباً على صدّام وكان ذلك اعتقاداً خاطئاً. وتشير المقالة إلى أن سوء التقدير ذاك قد وَقَرَ في أذهان القيادة العليا الأمريكية من طريق عضو في مجموعة المعارضة العراقية المتمركزة في لندن، وكان ذا قُربَى لضابطٍ عراقي يعمل قائداً للطائرات العمودية المسلحة. ولكن صحة هذه الفرضية لم تثبت على حدّ علمي.

          استغرقت مباحثات صفوان ، التي عُقدت في الثالث من مارس، ساعتين، من الحادية عشرة والنصف صباحاً إلى الواحدة والنصف بعد الظهر. وعندما صافحت الفريق سلطان قلت له أتمنى أن تعود علاقاتنا، بصفتنا عرباً، إلى ما كانت عليه قبل الصراع. ولكن ما أن خرجنا من الخيمة واحداً بعد الآخر إلى ضوء الشمس حتى شعرت بشيء من الإحباط لضحالة ما تحقَّق. إذ لم يوقَّع العراقيون أية وثيقة ناهيك من وثيقة استسلام. ولم يتم التوصل إلى شيء ذي بال، باستثناء ما ظفَر به العراقيون من السماح لهم بحرية تحليق طائراتهم العمودية المسلحة. كانت خاتمة مريبة غريبة لحرب كانت حاسمةً قاطعةً في ميدان القتال. وبدا الأمر وكأنك تشاهد " فيلْماً " سينمائياً مملوءاً بالحركة والأحداث المثيرة. يشدّ انتباهك، فتُمَنّي نفسك بنهاية قوية مؤثّرة تتناسب ومستوى الأحداث فإذا به ينتهي نهاية مثبطة ضعيفة لا تُقنع أحداً. كانت صفوان خطأً فادحاً في كل المقاييس.

سابق بداية الصفحة تالي