مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

الفشل في صَفوان (تابع)

          قبل ثلاثة أيام من اجتماع صفوان ، وبالتحديد ليلة 28 فبراير 1991، كنت في غرفة مدير إحدى المدارس الكويتية التي تعرّضت للنهب، والتي أصبحت، فيما بعد، مركز القيادة المتقدِّم. وخارج المدرسة، كانت الطلقات النارية المتتابعة تدوِّي، وضوضاء آلات التنبيه تنبعث عالية صاخبة، إذ كاد الكـويتيون يطيرون فرحاً وابتهاجاً باستعادة حريتهم واستقلالهم. وكنت قد وصلت إلى الكويت صباح ذلك اليوم وذهني لا يزال مشغولاً بالمشاكل التي يمكِن أن يفجّرها الموقف الحالي عقب استعادة الكويت. فقد لاذ العراقيون بالفرار ولـم يعُد لهم وجـود، ولكني كنت أخشى، نتيجة الفراغ السياسي، أن تقع مصادمات بين قواتي وأفراد المقاومة الكويتية الذين كانوا آنذاك يسيطرون على الشوارع مسلحين بالبنادق وضجيج احتفالاتهم يصـم الآذان، أو بين تلك المقاومة والجالية الفلسطينية المضطربة التي وُجِّهت إليها اتهامات، مبالغ فيها في بعض الأحيان، بتعاطفها مع الغزاة العراقيين، وساءت علاقاتها بالكويتيين تبعاً لذلك. وإزاء الفوضى السائدة، أصدرت تعليماتي إلى القادة المرؤوسين بتوخِّي أقصى درجات الحيطة والحذر. كان مقرراً أن أقوم بجولة في المدينة في اليوم التالي، ولم أكن قد فقدتُ الأمل بإمكان تطبيق الخطة الأمنية التي أعددْتها من قبل لإحلال الأمن في المدينة. تلقيت مكالمة هاتفية من شوارتزكوف في الرياض عبْر الخط المأمون من طريق الأقمار الصناعية .

          قال شوارتزكوف: " تلقيت رسالة مهمة من الرئيس. يريدنا أن نجتمع إلى العراقيين في أسرع وقت ممكن. لذا، لا بد أن أجتمع إليك ونخطط لذلك".

          أصدر الرئيس بوش أوامره بوقف العمليات العسكرية كافة صباح ذلك اليوم، وبالتحديد، في الثامنة من صباح يوم 28 فبراير بتوقيت الرياض (منتصف ليل 27 فبراير بتوقيت شرقي الولايات المتحدة ). وكان ذلك إيذاناً بنهاية رسمية للعمليات العسكرية في حرب الخليج. وتوقعت أن الرئيس الأمريكي كان يريد ترتيب لقاء يعلن فيه العراقيون استسلامهم الرسمي لقوات التحالف. وتصورْت مشهداً مَهيباً كالذي حدث في "خليج طوكيو" في سبتمبر 1945، حينما قَبِلَ الجنرال ماك آرثر استسلام اليابانيين.

          لكني لم أتلقَّ، حتى ذلك الحين، أية تعليمات من رؤسائي في هذا الشأن. سألت شوارتزكوف: "هل تحدث الرئيس بوش مع حكومتي عن الموضوع؟".وأردفت قائلاً:" لا يسعني أن أناقش ذلك الاجتماع أو أخطط له إلاّ إذا تلقيتُ تعليمات رسمية بذلك ".

          قال شوارتزكوف: "لا أدري إن كان قد حدث اتصال بين القيادتين في هذا الشأن أم لا".

          فأجبته:"إذا لم أتلقَّ أوامر من الملك أو الأمير سلطان بالعودة فوراً إلي الرياض، فسأُمضي يوم غد في الكويت حسب البرنامج المخطَّط من قبل".

          وكان ذلك ما فعلته، إذ لم أعُد إلي الرياض إلاّ مساء اليوم الأول من مارس. وعلمت، بعد وقت قصير من وصولي، أن الاجتماع المقترَح إلي العراقيين سيتم في اليوم التالي، يوم 2 مارس، وأن علَّي أن أتعاون مع شوارتزكوف لإنجاح تلك المهمة.

          اجتمعت وشوارتزكوف في الحادية عشرة ليلاً، في غرفة العمليات الرئيسية. بادرته قائلاً:" في وسعي الآن أن أتحدث عن موضوع الاجتماع بالتفصيل، ولكنْ لديّ سؤالان مبدئيان: إلي من سنجتمع ؟ وأين سيكون الاجتماع؟".

          رد شوارتزكوف: فلْنتحدث عن المكان أولاً. ما رأيك في حاملة طائرات أمريكية ؟ هل تقبل بذلك؟".

          رَدَدت بكل حزم:" لا. هذا أمر غير وارد على الإطلاق ". كنت أرى أن عقد اجتماع إلي العراقيين علي متن حاملة طائرات أمريكية سيجعله مشهداً أمريكيّا صرفاً.

  قال شوارتزكوف: "إن كان هذا رأيك، فلْنجتمع في الرياض إن شئت، أو في أيْ مكان آخر".
أجبته: "لا مانع مطلقاً من أن نجتمع في الرياض، أو في جنيف مثلاً ".
فعاد يسأل: "ما رأيك في مكان داخل الكويت أو العراق نفسها؟".
قلت له:" لا مانع من ذلك أيضاً".

          عندئذٍ، طرح شوارتزكوف علَّي فكرة عقد المباحثات في صفوان ، مشيراً إلى أن ذلك المكان يتمتع بميزات عدّة. فهو قريب من الكويت إذ يقع شمال الكويت مباشرة، وفيه مهبط للطائرات، ويمكن لجميع قادة التحالف الوصول إليه بسهولة كاملة وأمان تام. والأهم من ذلك، أنها أرض عراقية، مما يؤكد للعالم أجمع وللشعب العراقي هزيمة صدّام وانتصار قوات التحالف.

          وعندما انتقلنا إلى الحديث عن أعضاء الوفد العراقي، قال شوارتزكوف إنه لا يعرف أسماءهم حتى ذلك الحين. فاعترضت قائلاً: "كيف نُعِدّ لاجتماعٍ دون أن نعرف إلى مَنْ سنجتمع؟".

          أجاب شوارتزكوف: "يبدو أنه حتى حكومتي لا تعرف مَنْ الذين سيرسلهم صدام ".

          لم يكن ذلك الوضع يرضيني أبداً. أبلغت شوارتزكوف ضرورة إصرارنا على أن يرسل العراقيون إلى المباحثات أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة ، ليكون رمزاً سياسيّا يؤكـد حقيقة هزيمة صدّام. لقد كسبنا الحرب، ومن حقنا الاجتماع إلى مسؤولين عراقيين أعلى منّا مرتبة، لا أدنى، لكي نكسر شوكة صدّام ونرغم أنفه، ونساعد على إسقاطه.

          قال: "هذه فكرة صائبة".

          في تلك اللحظة، وأنا جالس إلى جـواره، اتصل شوارتزكوف بالفريق أول كولين باول في البنتاجون لينقل إليه وجهة نظري.

  وبعد أن أنهى المكالمة، قال لي: "كلّنا متّفِق معك في الرأي".
فسألته: "من تقصد بـ "كلّنا"؟.
أجاب: " باول و تشينى وأنا".

          أسعدني أن تكون وجهة نظري قد لاقت تفهماً وقبولاً، وأنني نجحت في تأخير عقد المباحثات، مما يعطينا المزيد من الوقت لاتخاذ الترتيبات اللازمة. وطبقاً لما افترضت أنه موقف حكومتي، رفضت عقد اجتماع على ظهر حاملة طائرات أمريكية ، وصمَّمت على معرفة أسماء أعضاء الوفد العراقي قبل الذهاب إلى المباحثات، كما شدَّدت على أن يكون ذلك الوفد ذا مستوى عالٍ ومن مرتبة أعلى.

          بعد ظهر اليوم الثاني من مارس، جرى مزيد من التشاور بين الرياض وواشنطن فـي شأن الاجتماع المرتقَب. وتلقيت وشوارتزكوف، إثر ذلك، تعليمات رسمية بحضور الاجتماع يوم 3 مارس. فاجتمعنا ثانية في غرفة العمليات لمناقشة تفاصيله ووضع اللمسات النهائية عليه.

          وعلى الرغـم من أن المباحثات كـانت ستبدأ صبيحة اليوم التالي، إلاّ أن شوارتزكوف لـم يكن يعرف، حتى تلك اللحظة، أسماء أعضاء الوفد العراقي. ولم أحبِّذ الذهاب في ظل هذا الوضع الغامض. واقترحت أنه من الأفضل، فـي ظل تلك الظروف، أن نرسل نائبيْنا، لا سيما إذا تبيَّن لنا أن أعضاء الوفد دوننا مرتبة.

          وفي تلك اللحظة، جاء ضابط استخبارات من القيادة المركزية الأمريكية مسرعاً ومعه اسمان من كبار الضباط العراقيين. أخذتنا الدهشة ونحن نقرأ اسمَيْ الضابطين العراقيين، كان الاسم الأول هو الفريق سلطان هاشم أحمد ، والاسم الثاني هو الفريق صالح عبود محمود . ولكن الاسمين لم يعنيا شيئاً بالنسبة إلينا. فلـم نكن نعرف شيئاً عن هذين الرجلين ولا عن موقعهما في التسلسل القيادي للقوات المسلحة العراقية. توجّه شوارتزكوف بالسؤال إلى ضابط الاستخبارات لعله يجد الإجابة لديه، لكنه، هو الآخر، لم يكن يعرف عنهما شيئاً. ولا أكاد أصدِّق، حتى الآن، أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن تعرف هوية ضابطين عراقيين كلاهما برتبة فريق.

          لـم نحصل على معلومات عنهما إلاّ بعد أن أصدرت تعليماتي إلى اللواء ناصر العرفج، رئيس هيئة استخبارات وأمن القوات المسلحة السعودية، لتزويدنا بالمعلومات المتوافرة عن الرجلين. فتبيّن لنا أن الفريق سلطان يشغل منصِب نائب رئيس الأركان، بينما الفريق صالح هو قائد الفيلق الثالث، أو بالأحرى ما تبقّى من الفيلق الثالث بعد التدمير الذي لَحِق به جرّاء الحملتين الجوية والبرية لقوات التحالف.

          كانت وجهة نظري ألاّ تكون مباحثاتنا مع ضابطين عراقيين ليسا في المستوى القيادي المطلوب. ولكني لم أشأ أن أستمر في الاعتراض، خشية أن يُحْدِثَ ذلك صَدْعاً في صف التحالف في أيامه الأخيرة.

          قلت لشوارتزكوف:" إن حضور الاجتماع أمرً لا يروق لي أبداً، أرى أن حضورنا سيكون غلطة كبيرة. ولكن لا بديل أمامي سوى الحضور".

          وعندما أُعيدُ النظر في ذلك الأمر، أراني ما زلت على اعتقادي أنّ لو أَصَرّ التحالف على حضور أحد أعضاء قيادة الثورة المباحثات، مثلما اقترحت، ولو استمر الضغط على صدّام مدة أطول، لَرَضخ ولَتَغير وجه العراق ومنطقة الخليج إلى ما هو أفضل.

          لكن بات واضحاً أن الولايات المتحدة لا تريد أن تمارس المزيد من الضغوط في هذا الاتجاه. كان لدىّ شعور قوي أن الإدارة الأمريكية، مثلما حدَّدتْ توقيت إيقاف العملية العسكـرية بما يمكنها من إطلاق العبارة الطنانة "حرب المائة ساعة"، فإن هدفها من اجتماع صفوان كان الدعاية، لا أكثر ولا أقلّ. أراد الأمريكيون له أن يكون حدثاً إعلامياً دون مردود سياسي أو عسكري. وبدلاً من مناقشة إجراءات الاستسلام الرسمية، أو الاعتراف العلني بأن صداماً قد خسر الحرب، طُلب منّا أن " نناقش " مع الجانب العراقي بعض القضايا الفنية كإطلاق الأسرى، وجمْع جثت القتلى، وتحديد مواقع حقول الألغام، والفصل بين القوات. قضايا كان يمكن لضباط أركاننا مناقشتها على نحو أكثر تفصيلاً.

          تولد لدىّ شعور بأن الولايات المتحدة لـم تكن تسعى إلى الحصول على استسلام عراقي رسمي، أو كانت ترى أن ذلك أمرً غير مناسب. لذا، لا يسعني سوى تخمين أسباب هذا التوجه. فلعل من هذه الأسباب ترجيح الإدارة الأمريكية أن صداماً لن يبقى في الحكم بعد أن تعرّض لكل تلك المهانة والعقاب، وأن شعبه سيطيح به لا محالة. وربما دفع هذا الاعتقاد الرئيس بوش ومستشاريه إلى العمل على التئام جراح الحرب بما يتفق والنظام العالمي الجديد الذي كانت واشنطن تأمل أن يتمخّض عنه ذلك الصراع. وربما ارتأت الإدارة الأمريكية أيضاً أن تُبقي على العراق كقوة يمكنها الدفاع عن نفسها، ويكون لها ثِقَل إقليمي موازن لإيران .

          من جهة أخرى، قد يكون هناك تفسير أبسط لذلك المسلك الأمريكي، هو أن الحرب قد وضعت أوزارها ولـم يعد هناك حماسة لمواصلة القتال. إذ بعد هزيمة العراقيين وفرارهم، فإن مواصلة قتالهم ستثير الرأي العام العالمي الذي سيستنكر، دون شك، الاستمرار في إراقة الدماء في معركة أصبح من الواضح أنها غير متكافئة. فضلاً عن أن خسائر التحالف لا تكاد تُذْكَر، وكأن لسان حال الأمريكيين والبريطانيين يقول: " يكفى ما حدث، ولا ضرورة لخسائر أكثر، فلْنجمع شتات الأمر، ونسرع بالرحيل ".

          ربما كانت تلك بعض الأسباب التي دعت إلي وضع الترتيبات لمباحثات صفوان على عَجَل، دون تقدير للآثار والعواقب التي قد تنجم عنها في المدى البعيد.

          وأجد لزاماً عليَّ أن أضيف، إحقاقاً للحق، أن دَورنا في هذه الترتيبات كان محدوداً. فبعد أن تحررت الكويت ابتعدنا نحن وشركاؤنا العرب في التحالف عن الصراع عملياً، بعد أن انتقلت العمليات إلى المسرح العراقي، ولم يَعُد لي شخصياً أي دَور فيه. فلم تشتبك القوات المشتركة في أية عمليات على الأراضي العراقية. كانت المعارك جارية بين القوات الأمريكية والبريطانية والفرنسية، من جهة، والقوات العراقية، من جهة أخرى. وكانت مسؤوليتي العملياتية مقتصرة على الكويت فقط. وفي الأيام القليلة الأخيرة من الصراع، كنت أحاول تتبع المعارك الدائرة جنوبي العراق ولكن المعلومات الاستخبارية التي كانت تتوافر لدينا لم تكن كافية في حال من الأحوال ولا تعكس حقيقة الأحداث. وكما سبق أن ذكرت، لم تكن الولايات المتحد ة مستعدة للتصريح بأحداث عملية "الخطاف الأيسر" ونتائجها.

          كنت أعلم أن التقدم إلى بغداد لم يكن أمراً وارداً على الإطلاق، ولم يُطرح مثل هذا الموضوع للنقاش البتة. وغنيّ عن البيان أن هذا الأمر كان مرفوضاً من كل الدول العربية في التحالف، وهو بالتأكيد أمرً غير قابل للنقاش من جانب المملكة ، ويلقى المعارضة كل المعارضة.

          كنّا حريصين على تهيئة المناخ الملائم أمام الشعب العراقي، دون أن نتدخل بشكل مباشر، ليتخلص بنفسه من صدّام الذي ألحَق به العار والهزيمة، فالعراق، قبل كل شيء، جارً عربي، قاتلناه مكرهين. وعلينا، الآن ومستقبلاً، أن نتعايش معه في وئام. وفي تلك المرحلة ( مرحلة ما بعد العمليات العسكرية ) لم يكن أحدّ يتوقع حدوث التمرد ضد صدّام سواء في جنوبي البلاد أو شماليها، وبالمثل لـم يكن أحدّ ليتصور الأسلوب الوحشي الذي تم به إخماد ذلك التمرد.

          كان لهذه الاعتبارات جميعها دور في تشكيل نظرتي إلى اجتماع صفوان . وكما أسلفت، كان عدم وجود وثيقة رسمية للاستسلام أمراً مخيباً للآمال. فقد كان من شأن تلك الوثيقة أن تساعد على الإطاحة ب صدام . وبينما كنت أناقش مـع شوارتزكوف جـدول الأعمال المقتضَب لاجتماع صفوان ، فـي وقت متأخر من يوم 2 مارس، حاولت أن أضع خطاً واضحاً يحدد مسؤولية كل منّا. فأبلغته أنني سأتناول الموضوعات التي تقع في نطاق سلطاتي، مثل موضوع إعادة الأسرى المدنيين الكويتيين الذين أُخذوا إلى العراق رغماً عنهم، وسأترك له الموضوعات التي تقع في نطاق سلطاته، بما في ذلك موضوع أسرى الحرب والفصل بين القوات. لم أكن أريد التدخل في موضوع "الفصل بين القوات"، لأنه لا يعنيني، فالقوات الأمريكية، وليس قواتي، هي التي كانت تحتل جزءاً كبيراً من الأراضي العراقية، وهي التي لا تزال تواجِه العراقيين وجهاً لوجه، بل تقاتلهم أيضاً. لم يكن بيننا وبين القوات العراقية اتصال مباشر، بعد أن تمركزت القوات الأمريكية بيننا وبينها.

          لم يمنع قرار " وقف الأعمال العدائية " الذي أعلنه الرئيس بوش في 28 فبراير، حدوث بعض الاشتباكات، والتي كان أخطرها على الإطلاق ما حدث صباح يوم 2 مارس نفسه، عندما هاجمت وحدات من الفِرقة 24 مشاة آلية الأمريكية رتَلاً عراقيّا بالقرب من حقول بترول الرميلة، ودمرت أعداداً كبيرة من العربات المدرعة وقِطع المدفعية العراقية. وثمة مواجَهة أخرى كادت أن تقع في صفوان نفسها، عقب اختيارها مكاناً للمباحثات. كان شوارتزكوف يظن أن تلك المنطقة تقع تحت سيطرة الفِرقة الأولى مشاة من الفيلق السابع. ولكن عندما شرع الأمريكيون يُعِدُّون الترتيبات، تبيّن لهم أن مهبط الطائرات في صفوان كان لا يزال تحت سيطرة إحدى الوحدات العراقية، وكانت على ما يبدو، على استعداد للقتال! وبعد نقاش حاد بين قائد الفيلق السابع و شوارتزكوف ، الذي شعر بأن هذا القائد قد أبلَغه معلومات غير صحيحة عن حقيقة الوضع على الطبيعة، اتصل بي قائلاً " إننا نواجه مشكلة. إن قرار وقف إطلاق النار يمنعنا من تنفيذ عمليات هجومية لطرْد العراقيين، ولكننا أحطنا الصحافة علماً بأن الاجتماع سيُعقد في صفوان ، فما العمل؟". وللخروج من هذا المأزق، أمر شوارتزكوف قوة أمريكية كبيرة أن تحاصر المنطقة، ثم تُعْطَى مهلة للعراقيين للانسحاب وإلاّ تعرّضوا للتدمير‍‍! وتصرّف العراقيون كما ينبغي، إذ آثروا السلامة وانسحبوا بطريقة منظمة واصطحبوا معهم دباباتهم ومعداتهم كاملة.

          أدهشتني تلك الأحداث التي وقعت بين القوات الأمريكية والقوات العراقية في صفوان إلى أبعد الحدود، لأنها كانت تخالف ما توصلتُ إليه من تفاهم مع شوارتزكوف. فبعد أن أدركنا المشاكل التي واجهتْ التحالف حين أخذ عشرات آلاف من الأسرى، وصعوبة تأمين المعيشة لأعداد إضافية منهم، اتفقنا على نزْع سلاح الوحدات العراقية التي نأسرها، وإعادة أفرادها إلى العراق بالشاحنات أو سيراً على الأقدام دون أسلحتهم ومعداتهم الثقيلة، إلاّ أن تلك الوحدة العراقية سُمِح لها بالانسحاب بأسلحتها كاملة، والانضمام إلى باقي وحدات الحرس الجمهوري التي نجحت، بطريقة أو بأخرى، في الإفلات من المصيدة الأمريكية.

سابق بداية الصفحة تالي