مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

الفصـل الرابع والعشرين

دروس مستفادة وَرؤيـــة مستقبليّة

          عكفتُ فى السنوات التي تلت حرب الخليج التى خضناها عام عام 1991م، على استيضاح وتحديد الدروس التى يمكن لنا في منطقة الخليج استخلاصها من ذلك الصراع. ولم يكن ذلك أمراً هيناً، إذ إن حرب الخليج فريدة في نوعها. فهي لا تشبه من قريب أو بعيد، تلك الصراعات التى اندلعت في منطقتنا وما حولها في العقود الماضية. فهي لا تشبه مثلاً الحرب العراقية - الإيرانية، أو الحروب في القرن الأفريقي أو في جنوب السودان ، أو اليمن أو الحرب الضروس التي تدور رحاها، حتى وقت كتابة هذه السطور، في يوغوسلافيا السابقة، تلك الحرب التي أهلكت الحرث والنسل. ولا تشبه أيضاً الحروب التي دارت بين العرب وإسرائيل في 1967 و 1973 و 1982، أو الانتفاضة في الأراضي المحتلة. هي حرب تخالف تماماً كل ما ألِفَه العالم. فهي ليست حرباً تقليدية كالتي تقع عادة بين دولتين، أو حرب تحرير وطنية، أو صراعاً عرقياً أو دينياً، أو صراعاً محدوداً كتلك الصراعات التي أَقَضَّت مضاجع دول العالم الثالث وجعلتها نهباً للفوضى والإفلاس.

          كانت حرب الخليج شيئاً مختلفاً تماماً. ففى جانب التحالف، نجد القوة الرئيسية قوة عظمى، والأسلحة المتقدِّمة التي تم نشْرها، مثل الأقمار الصناعية، والطائرات المتسلِّلة التي لا يكتشفها الرادار، وصواريخ كروز التي تنطلق من الغواصات، وغير ذلك من أسلحة متطورة ومعدات حديثة، هي أنظمة لا تتأتَّى إلاَّ لقوة عظمى. وفى الجانب الآخر، نجد طاغية متسلطاً لا تتعدى إمكاناته الحربية إمكانات دولة صغيرة من دول العالم الثالث، تكدَّست لديه، نتيجة حربه على إيران، آلة حربية ضخمة، وإن لم تكن متقدمة، استخدمها في عمل عدواني طائش. أصمَّ أذنيه، فلم يستمع إلى نصح الناصحين، ولم يّعْبَأ بمعاناة شعبه، بل لم يلقِ بالاً إلى أبسط مبادئ الحرب أو حتى قواعد الفهْم السليم لها، فأوردَ بلده موارد التهلكة في صراع غير متكافئ مع تحالف دولي يمتلك أسباب القوة كلها.

          وللوهلة الأولى، قد لا تبدو لحرب الخليج دروس يُستفاد منها في المستقبل. فإذا سلَّمنا بأنها حرب فريدة في طبيعتها، وربما الصراع الأول والأخير في هذا النوع، فهل ثمة دروس يمكِن أن نخرج بها من تجارب تلك الحرب؟ ربما كان من الحكمة ألاّ نفْرط في استنباط الدروس منها، إذ من شأن ذلك أن يضلّنا ويَصرِفنا عن الأخطار الحقيقة التي نواجهها.

          فالحروب التي من المحتمل أن نضطر إلى الاشتراك فيها مستقبلاً، كما يشهد بذلك واقع العالم الذي نعيش فيه، مثل الحروب المحدودة ومقاومة حركات التمرد والعصيان والحروب ضد الإرهاب والصراعات المنخفضة التقنية التي تدور بين دول العالم الثالث، تتطلب بناءً وتنظيماً للقوات، ونوعية للأسلحة والمعدات، وتخطيطاً للإستراتيجيات تختلف تماماً عمّا تم نشْره واستخدامه في الخليج. ولا يستدعي الأمر أن نركز اهتمامنا على حرب الخليج، حرب الحاسبات الإلكترونية وحرب الضغط على الأزرار والحرب العالية التقنية، كأنموذج للحرب المستقبلية، أو أن نُعِد أنفسنا لمثل تلك الحرب. لذلك، أضحى لزاماً علينا في تسليحنا، وبناء قواتنا، وترتيبات دفاعاتنا، مع شركائنا في مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ألاَّ نجعل من قواتنا المسلحة نسخة مكرَّرة من القوات المسلحة لأكثر الدول الغربية تقدماً، تلك التي اشتركت معنا في حرب الخليج. فبدلاً من ذلك، علينا أن نبني ونشكِّل وننظِّم قواتنا، ونسلِّحها وندرِّبها ونُعِدّها، بناءً على تقييم واضح للتهديدات التي يُحتمل أن نواجهها مع افتراض أكثرها سوءاً وأشدها احتمالاً، ووَفقاً لإستراتيجيتنا وسياستنا وأهدافنا، وطبقاً لقوتنا البشرية، ومواردنا وإمكاناتنا الأخرى المُتاحة.

          ولكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل يمكن أن تتكرَّر أزمة الخليج مرة أخرى؟ والإجابة عن هذا السؤال، من الناحية النظرية، لابد أن تكون "نعم". وذلك، إذا توافرت الظروف الداخلية نفسها، سواء في العراق أو في أية منطقة أخرى، والظروف الإقليمية في المنطقة، والعالمية للمجتمع الدولي. ولكن من الناحية العملية، لا يمكِن أن تتكرر تلك الأزمة مرة أخرى. وذلك لأسباب عدة، أهمها أنه من غير المحتمل أن يتوافر لدى قيادة العراق الحالية أو المستقبلية أو أية قيادة أخرى في المنطقة مثل تلك القوة الجامحة التي توافرت لصدام في ذلك الوقت. وإذا توافرت، فلن ترضى قيادتها أن تكرِّر الخطأ نفسه وتتحدى العالم الصناعي بأسْره، ومن غير المحتمل أيضاً أن تقْبل قواتها المسلحة أن تدخل في حرب غير متكافئة مثل حرب الخليج.

          أما السؤال عن مدى استجابة القوى العظمى للتدخل في أية أزمة مستقبلية في الخليج، فهذا أمر يصعب التكهن به. وينبغي ألاّ يغيب عن أذهاننا أن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها الرئيسيين من الدول الغربية خفّضوا موازاناتهم الدفاعية بشكل ملحوظ، مما أثَّر في قدراتهم الدفاعية. وأن ما كان لدى الولايات المتحدة من بنْية عسكرية أساسية ( قواعد عسكرية وانتشار قوات ) في أوروبا، والتي ظهر دَورها الحيوي إبَّان أزمة الخليج، بدأت تتناقص بشكل حاد. وعلينا أن نضع نصْب أعيننا أن الغرب لن يتدخل في النزاعات الإقليمية الآن بشكل تلقائي، أو أن استجابته ستكون حتمية. فعلى سبيل المثال، انسحبت القوات الأمريكية من الصومال حين واجهت مقاومة من الفصائل المحلية، إذ لم يكُن الوضع هناك يهدد المصالح الحيوية للولايات المتحدة بشكل مباشر، بينما في البوسنة، ظلت هي الدولة الوحيدة التي تتردد في إرسال قواتها. وتحضُرُني، في هذا السياق، مقولة تحذيرية أطلقها الفريق أول كولين باول عام 1993، وهو أحد العقول المفكرة التي أدارت حرب الخليج بصفته رئيساً لهيئة الأركان المشتركة الأمريكية إذ قال: "من الضروري، ونحن نخفض حجم القوات المسلحة، أن يكون واضحاً أمامنا ما سنعجز عن تنفيذه في المستقبل". وبعبارة أخرى، فإن الولايات المتحدة بتربُّعها على قمة العالم، ليست على استعداد في جميع الحالات لتقوم بدَور الشرطي. ولا يَسَعُنا إلا أن نؤكد، وهذا مبدأ ثابت في حساباتنا السياسية منذ القِدَم، أن الدول الغربية لن تتوانى عن مساعدتنا إذا تعرّضت مصالحها الحيوية في منطقتنا للخطر. أما إذا كان الخطر الذي نواجهه لا يشكِّل تهديداً للمصالح الغربية، فعلينا أن نعتمد في مواجهته - بعد الله - على أنفسنا فقط.

          إذاً فأول الدروس المُستفادة من حرب الخليج هو ألاّ ننظر إلى الغزو العراقي كأنموذج للتهديدات التي يمكِن أن نجابهها مستقبلاً، وألاّ ننظر إلى حرب الخليج كأنموذج لحل الأزمات التي قد نتعرَّض لها. إذ إن تلك الأزمة، والحرب التي قامت على أثرها حَكَمَتْها ظروف خاصة، وتكرارها في المستقبل المنظور أمر بعيد الاحتمال.

سابق بداية الصفحة تالي