إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / العراق والكويت، الجذور ... الغزو ... التحرير / بوادر الأزمة العراقية ـ الكويتية وتطورها (1988 ـ 1990)




أمير الكويت، وصدام حسين
الملك فهد، والرئيس صدام
الرئيس صدام، والملك فهد





المبحث الأول

المبحث الأول

التمهيد العراقي للأزمة مع الكويت

أولاً: إحياء الإعلان القومي العراقي

    كان تولّي الرئيس صدام حسين مقاليد الحكم في العراق، في رأي كافة المراقبين السياسيين، والمهتمين بشؤون الخليج ـ إيذاناً بمرحلة جديدة في المواقف العراقية، تجاه الكويت بخاصة، والعلاقات العراقية ـ الخليجية بعامة. نمّت بذلك تصريحاته المتزنة، أثناء زيارته طهران، وهو لمّا يزل نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة، في مايو 1975، حين سُئل عن موقف العراق من قضية الحدود مع الكويت، فأجاب: "إن العراق، قرّر التنازل عن قراره السابق، برفض ترسيم الحدود مع الكويت. وأصبح قراره، الآن، يتبنّى منطقاً قومياً، يقضي بإنهاء هذه المشكلة، على أساس لا غالب، ولا مغلوب...

    ويتضح من هذا التصريح حرص صدام حسين على حُسن الجوار، وإدراكه للقضايا القومية، التي تخدم البلدَين. ودأب على موقفه، بعد أن أصبح الرجل الأول في العراق، واستطاع أن يُنحِّي الرئيس أحمد حسن البكر، وتولى السلطة، في 16 يوليه 1979. ثم صدرت عنه خُطب وأقوال وأحاديث صحفية، عقب توليه الرئاسة مباشرة، وهي كلها ضد الظلم والبغي. فيعلن في احتفالات الثورة، في 17 يوليه 1979، في خطاب جماهيري، نقلته جميع وكالات الأنباء: "إن واجبنا هو إحقاق الحق، ومعاداة الظلم. سأناضل لأكون راية بين الرايات، وليس الراية الوحيدة، وقائداً بين القادة، وليس القائد الأوحد..."

    كان لهذه التصريحات الرسمية أثر طيب في علاقات العراق بدول الخليج، أدت إلى مساندتها إياه، أثناء حربه ضد إيران؛ وذلك من طريق تقديم مساعدات مالية، تجاوزت 38 مليار دولار. قدمت منها المملكة العربية السعودية 26 ملياراً من الدولارات. بينما قدمت الكويت 12 ملياراً، ومبالغ أخرى، راوحت بين المليارين والخمسة مليارات، من كلٍّ من قطَر ودولة الإمارات العربية المتحدة، إلى جانب التسهيلات، البرية والجوية والنفطية، التي شملت خدمات الطرق والموانئ والقروض النفطية

    لقد استجاب قادة دول الخليج لصدام حسين، إلى أبعد مدى. فتبيّن أثر تصريحاته المتزنة، كإعلانه احترام الجوار، وسيادة كل دولة على أراضيها. وخطا خطوات أخرى على طريق تحسين علاقاته بجيرانه. وحرص، في كل مناسبة، أن يدلي بأقوال، تزيل الشك، وتبدد القلق لدى الآخرين.

    ولم يكتفِ الرئيس العراقي بالخطب أو الأحاديث الصحفية؛ وإنما اتخذ خطوات عملية، نحو توثيق العلاقات العراقية ـ العربية. فأعلن، في 8 فبراير 1980، في اجتماع جماهيري، ما أطلق عليه "الإعلان القومي"، الذي عدَّه ميثاقاً قومياً، يلتزم العراق بنقاطه، ويجعله دستوراً لمعاملاته، العربية والدولية. وضمّنه من المبادئ، ما يجعله صالحاً ليكون أساساً لعلاقات تضامن حقيقي. وصرّح، لدى إعلانه هذا الميثاق بقوله: "إن هذا الإعلان القومي، يشكل أساساً صالحاً لإِقامة تضامن حقيقي، ولحل المشكلات مع بعض "الجيران"، وينظمها على أُسُس المصالح المشتركة، مع احترام "الجيرة".

    وفي 28 مايو 1990، وفي مناسبة انعقاد القِمة العربية الاستثنائية، في بغداد، أعادت الجرائد العراقية نشر الإعلان القومي (الميثاق)، في أعدادها الصادرة صبيحة انعقاد القِمة.

    وتتلخّص نقاط الإعلان في ما يلي: (أنظر وثيقة نص الإعلان القومي العراقي الذي أعلنه الرئيس صدام حسين، في مهرجان شعبي في 8 فبراير 1980، كميثاق للتعامل بين الأنظمة العربية)

1.  رفض وجود الجيوش الأجنبية في الوطن العربي، ومنحها القواعد والتسهيلات.

2.  تحريم اللجوء إلى القوة، في المنازعات بين الدول العربية.

3.  تضامن الأقطار العربية كلها ضد أي طرف، يعتدي على أحدها أو يتدخّل في شؤونه.

4.  التزام العرب بالأعراف والقوانين الدولية، بالنسبة إلى استخدام المياه والأجواء والأقاليم، من قِبل دولة، أي دولة، ليست في حالة حرب ضد أي قطر عربي.

5.  استعداد العراق للالتزام بهذه المبادئ، تجاه أي قطر عربي، أو أي طرف يلتزم به، وهو مستعدّ لمناقشته.

ثانياً: توطيد العلاقات العراقية ـ السعودية

    في عام 1989، أراد الرئيس صدام حسين، أن يعد نفسه للخطوات القادمة، التي كان يخطط لها، فتقرّب إلى المملكة العربية السعودية. وكذلك إلى الكويت. وعمل على توطيد العلاقات بهما.

    ففي أوائل عام 1989، زار المملكة العربية السعودية، حيث عَرَض على الملك فهد بن عبدالعزيز، مشروع اتفاقية، في شأن عدم الاعتداء بين البلدَين. وأبدى الملك فهد ما مفاده، أنه فوجئ بمشروع هذه الاتفاقية، وسأله، بصراحة: "هل توقيع مثل هذه الاتفاقية ضروري؟". ورد الرئيس العراقي بما فحواه: "إن توقيع هذه الاتفاقية، إنْ لم يكن ضرورياً، فقد يكون ملائماً؛ لأن أطرافاً كثيرة، تسعى، بالدس والوقيعة، وتحاول أن تصور العراق، الخارج من الحرب ضد إيران منتصراً، على أنه يضمر نيات عدائية لإخوانه وأشقائه". وقال الملك فهد، إنه "على استعداد لتوقيع الاتفاقية، وإنْ كان يشعر أن العلاقات، التي يربطها الدم، هي أقوى من تلك التي توقَّع بالحبر". وانتهت الزيارة، بعد أن وجَّه صدام حسين الدعوة إلى خادم الحرمَين الشريفَين، لزيارة العراق.

    وفي الساعة 12 من ظهر يوم السبت، 18 شعبان 1409 هـ، الموافق 25 مارس 1989م، غادر خادم الحرمَين الشريفَين، مطار الملك خالد الدولي، في الرياض، متوجهاً إلى بغداد، تلبية لهذه الدعوة.

    وواصل العراق، قيادة وإعلاماً، إشادته بهذه العلاقات. وتقديراً من الرئيس العراقي، لخادم الحرمَين الشريفَين، في مجال دعم العراق في حربها ضد إيران، أصدر المرسوم الجمهوري العراقي الرقم 166، في مساء 25 مارس 1989، الذي يقضي بمنح الملك أعلى وسام عراقي، وهو وسام الرافدَين، من الدرجة الأولى، ومن النوع المدني. (أُنظر وثيقة مرسوم جمهوري صادر عن الرئيس العراقي، صدام حسين، بمنح خادم الحرمين الشريفين، الملك فهد بن عبدالعزيز، وسام الرافدين من الدرجة الأولى، ومن النوع المدني، في 25 مارس 1989)    

    كما قلّد خادم الحرمَين الشريفَين، الرئيس العراقي، قلادة الملك عبدالعزيز، عقب حفلة العشاء، التي أقامها صدام حسين تكريماً لضيفه. (أُنظر صورة الرئيس صدام، والملك فهد) و(صورة الملك فهد، والرئيس صدام)  

    وظُهر يوم 27 مارس 1989م، الموافق 20 شعبان 1409هـ، وقبل مغادرة العاهل السعودي بغداد، متوجهاً إلى القاهرة، وقّع القائدان، في قصر "صقر القادسية"، في بغداد، اتفاقيتَين:

الأولى: عدم التدخل في الشؤون الداخلية، ورفض استخدام القوة بين المملكة العربية السعودية والعراق. (أُنظر وثيقة نص اتفاقية عدم التدخل في الشؤون الداخلية، وعدم استخدام القوة بين المملكة العربية السعودية والجمهورية العراقية الموقعة في بغداد، في20 شعبان 1409هـ، الموافق 27 مارس 1989م)

والثانية: التعاون الأمني بين البلدين.

    وعقب توقيع الاتفاقيتَين، قال الرئيس صدام حسين.

    "ورغم أن هاتَين الوثيقتَين، لا تأتيان بجديد على جوهر التعامل الأخوي، القائم فعلاً بين العراق والمملكة العربية السعودية. إلاّ أنهما يضعان في هذا الميدان، الذي حدث فيه تأكيد المبادئ والتعاون، يضعان هذا المسار وذلك التعاون في إطار موثق، لتؤشِر هاتان الوثيقتان إلى الأجيال القادمة مستوى العلاقة ونوعها بين المملكة العربية السعودية والعراق". واستطرد قائلاً: "والوثيقتان تنطويان على مبادئ وأُسُس لمفهوم عدم التدخل في الشؤون الداخلية بين البلدين الشقيقين. كما تنطويان على مبادئ وأُسُس وتفسير لمعنى عدم استخدام القوة والجيوش بين الدولتَين، على الإطلاق". وأضاف: "وعلى الرغم من أن هذا لم يحصل في تاريخهما، إلاّ أن تأكيد هذه المبادئ له معنى، في إطار المفهوم القومي، والمفاهيم الإسلامية ومبادئها، التي تجمع بين الشعبَين الشقيقَين". وأضاف الرئيس صدام: "أملنا بالله كبير، أن تمتد هذه الروح من التعاون، لتشمل العرب جميعاً، والمسلمين كافة، بل الإنسانية جمعاء".

    وبعد أن أكمل الرئيس صدام حسين إلقاء كلمته، ارتجل خادم الحرمَين الشريفَين كلمة، شكر فيها للرئيس صدام ما جاء في خطابه. وأضاف قائلاً: "إن الاتفاقيتَين، هي مبادئ تنطلق من روح أخوية. ومن المؤكد أنهما سوف تكونان فاتحة خير، ودليلاً على حُسن النيات بين الأمة العربية والأمة الإسلامية، وبين جميع دول العالم؛ لما فيهما من فوائد. فلنترك الأمر لكي يوضحه من كلف بذلك، وبطريقة تحتاج إلى شيء من التفصيل". واستطرد قائلاً: "إن الوثيقتَين، ليستا سِريتَين، وليس لهما أي خلفية، إلاّ محاولة المصلحة العامة، وما قدره هذان البلدان الشقيقان من فوائد، تكون لمصلحة البلدَين والأمتَين، العربية والإسلامية". (أُنظر وثيقة نص كلمة خادم الحرمَين الشريفَين التي ألقاها بعد توقيع الاتفاقية بين المملكة العربية السعودية والعراق في 27 مارس 1989)

    وبعد أن وُقِّعت الاتفاقيتان، غادر خادم الحرمَين الشريفَين، بغداد، متوجهاً إلى القاهرة. وقد بعث جلالته ببرقية إلى الرئيس العراقي، صدام حسين، شكر له فيها وللشعب العراقي الحفاوة البالغة التي قوبل بها، والتي تعكس أصالة الشعب العراقي. (أُنظر وثيقة نص برقية خادم الحرمَين الشريفَين، الملك فهد بن عبدالعزيز إلى الرئيس العراقي، صدام حسين في 27 مارس 1989 عقب مغادرة جلالته بغداد)

        وفي 29 مارس 1989، أعرب الرئيس العراقي عن تقديره لخادم الحرمَين الشريفَين، لما يقدِّمه على صعيد العمل الإسلامي، من إنجازات، تتسم بالاهتمام والمتابعة والرعاية، ولا سيما مشروعات توسعة الحرمَين الشريفَين، في مكة المكرّمة والمدينة المنوّرة.

    واقتدى المسؤولون العراقيون، على اختلاف مستوياتهم، بالرئيس صدام حسين. فأسهبوا في الإشادة، ومدح دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، لوقوفها مع العراق، حتى الثاني من أغسطس 1990.

    وقد علّق الرئيس المصري، حسني مبارك، على هاتَين الاتفاقيتَين، في خطاب له، في الاجتماع المشترك لمجلسَي الشعب والشورى، عُقد يوم الخميس، 24 يناير 1991، قائلاً: "وقد كان صدام حسين على أحسن العلاقات مع المملكة العربية السعودية. بل إنه طلب، فجأة، من خادم الحرمَين الشريفَين، الملك فهد بن عبدالعزيز، في إحدى زياراته للعراق، توقيع معاهدة عدم اعتداء بين البلدَين". واستطرد قائلاً: "أنا ذهلت لما سمعتها. وسألت الملك فهد: إيه الحكاية؟ قال لي: ده فاجأني بها. فاستغربت. وتساءل الملك فهد، حينئذ، عن الدواعي لعقد هذه المعاهدة، خاصة أن اتفاق الدفاع المشترك بين الدول العربية، يفي بالغرض. أما أن كل واحد، يعمل اتفاق عدم اعتداء، بيننا وبين بعض. ده إحنا قاعدين مخونين بعض. كلنا يعني في الحالة دي، لازم أمضي اتفاقية عدم اعتداء مع كل اللي حواليه كلهم، وفيه عدم ثقة، إذاً، أو فيه شيء بيدبّر. ومع ذلك فقد استجاب له ووقع المعاهدة، وهو في غاية الاستغراب". وتابع الرئيس مبارك قائلاً: "وأثبتت الأحداث، بعد ذلك، أنه كان يسعى إلى خداع العاهل السعودي، في الوقت الذي يضمر فيه العدوان على الكويت".

    وقبل الغزو العراقي للكويت، بأربعة أشهر، وبالتحديد في 17 مارس 1990، زار الرئيس العراقي، لساعات، منطقة حفر الباطن، في المملكة العربية السعودية، حيث قابل الملك فهداً، أثناء رحلة صيد في المنطقة. واستعرضا موضوع زيادة الكويت حصتها المقررة من النفط، طبقاً لقرارات "الأوبك"، مما يؤدي إلى خفض أسعار النفط، واستطراداً، يؤثر في اقتصاد العراق، في وقت يتعرض فيه لضغوط من كل جانب. ووعده الملك فهد بتدخله لدى أمير الكويت، لإقناعه بالالتزام بحصة "الأوبك" المقررة. ثم تطرق الرئيس صدام حسين إلى الموقف الأمريكي من العراق، وأبدى أن الولايات المتحدة الأمريكية، تضمر شراً للعراق. وعلّق الملك على ذلك بقوله، إنه يعرف الرئيس بوش شخصياً، المزهو، الآن، بانتصار الولايات المتحدة الأمريكية، في معركتها، العقائدية والإستراتيجية، ضد الاتحاد السوفيتي المنهار. وهو في هذا الوضع، سيكون آخر من يرغب في تحويل الأنظار عن انتصاره في أوروبا، إلى جهة أخرى، في الشرق الأوسط.

ثالثاً: توطيد العلاقات العراقية ـ الكويتية

    في الساعة الثامنة والنصف، من صباح السبت، 23 سبتمبر 1989، غادر مطار الكويت الدولي الشيخ جابر الأحمد الصباح، متجهاً إلى بغداد، في زيارة رسمية إلى الجمهورية العراقية، تلبية لدعوة من الرئيس العراقي. وجرى لأمير الكويت استقبال رسمي كبير، وكان الرئيس صدام حسين على رأس المستقبلين، معانقاً، ومرحباً، ومهنئاً بسلامة الوصول.

    ووصف الرئيس العراقي أمير الكويت، بأنه رجل شجاع، قومي، مؤمِن بعروبته ودينه. كما وصف شعب الكويت، بأنه شعب عربي أصيل. وقال إن العراق يعتز بموقف الكويت. وحدد طبيعة العلاقة، التي تربط بين شعبَي الكويت والعراق، بقوله: "إننا إخوة، وكأننا عائلة واحدة، ولكن بدولتَين مستقلتَين".

    وأعرب طه ياسين رمضان عن ترحيب العراق، رئيساً وحكومة وشعباً، بزيارة أمير الكويت، مشيداً بمواقف الكويت القومية المسؤولة، وبالعلاقات الأخوية المصيرية، التي تربط بين البلدَين الشقيقَين.

    وقبل بدء زيارة الشيخ جابر إلى العراق، حفلت الجرائد العراقية بمقالات الترحيب بالأمير، والإشادة بالمواقف الكويتية القومية. وقد قالت جريدة "القادسية"، في مقال افتتاحي لها: "إن بغداد، ستبقى مناراً، ومزاراً لأشقائها. يجدون عندها الحُب ومشاعر الانتماء الأصيل إلى الأمة العربية والوطن الكبير". وفي مقال افتتاحي آخر، وصفت الجريدة عينها زيارة أمير الكويت إلى العراق، بأنها زيارة الشعب العربي الكويتي شقيقه الشعب العربي العراقي.

    كما رحبت جريدة "الثورة" العراقية بزيارة الأمير إلى العراق، مؤكدة أن هذه الزيارة، ستسهم في تعزيز العلاقات الأخوية المتينة وتطويرها، بين العراق والكويت، في مختلف المجالات، بما يخدم مصلحة البلدَين والشعبَين، ويعزّز السلم والأمن والاستقرار، في المنطقة عموماً.

    ودأب العراق، في غير مناسبة، على تأكيد أن مصلحة الكويت وأمنها يُعَدّان من صميم مصلحة العراق وأمنه. وأن السنوات الثماني، خلال الحرب العراقية ـ الإيرانية، برهنت على صلابة العلاقات الوطيدة، القائمة بين العراق والكويت.

    وفي المساء، عقدت جولة المباحثات الأولى، بين الشيخ جابر الأحمد الصباح والرئيس صدام حسين. وتركزت المباحثات في العلاقات الثنائية بين البلدَين الشقيقَين، في مختلف مجالاتها، والأوضاع العربية الراهنة، على مختلف الصُّعُد، خاصة تطورات الأوضاع في لبنان، والقضية الفلسطينية، ودعم الانتفاضة الفلسطينية، والأوضاع في الخليج.

    وبعد انتهاء جلسة المباحثات الأولى، أقام الرئيس صدام حسين مأدبة عشاء، تكريماً لأمير الكويت. وتبادل الزعيمان العربيان، خلال الحفلة، الأوسمة؛ فقلّد الرئيس العراقي أمير دولة الكويت وسام الرافدَين، من الدرجة الأولى، ومن النوع المدني، بعد أن تلا رئيس ديوان رئاسة الجمهورية، المرسوم الجمهوري، الذي صدر في هذا الشأن.(أُنظر وثيقة مرسوم جمهوري صادر عن الرئيس العراقي، صدام حسين بمنح الشيخ جابر الأحمد الصباح، أمير الكويت وسام الرافدين، من الدرجة الأولى، ومن النوع المدني في 23 سبتمبر 1989) ثم قلّد أمير الكويت الرئيس العراقي قلادة مبارك الكبير، وهي من أرفع القلادات. (أُنظر صورة أمير الكويت، وصدام حسين)

    وفي اليوم التالي، 24 سبتمبر 1989، عقد أمير الكويت جولة المباحثات الثانية مع الرئيس العراقي. وكانت استكمالاً لجلسة المباحثات الرسمية الأولى. وقد تناولت المباحثات تطوير العلاقات بين البلدَين في الميادين كافة، إضافة إلى استعراض التطورات الراهنة، على الساحة العربية.

    وفي نهاية الزيارة، وفي صباح 25 سبتمبر 1989، زار الرئيس صدام حسين الشيخ جابر الأحمد، في مقرِّ إقامته، وقدَّم إليه هدية تذكارية، هي قطعتا سلاح من إنتاج هيئة التصنيع العسكري العراقية. ثم اصطحبه إلى المطار، حيث جرى توديع أمير الكويت، رسمياً.

    ويتضح مما سبق، أنه كان تمهيداً لِما يضمره صدام نحو الكويت، كي يفاجئ الجميع بافتعاله الأزمة معها، فتبدل الثناء هجاءً، وتحولت البطولة خيانةً، في أقلّ من عام واحد.

    في ذلك الوقت، كان سعر النفط آخذاً في الارتفاع، بعد أن وصل إلى أدنى حدٍّ له، في أكتوبر 1988، فارتفع، في نهاية العام نفسه، إلى 14 دولاراً/برميل الواحد. واطّرد ارتفاعه، خلال عامَي 1988 و1989، حين بلغ 18.84 دولاراً/ برميل، وازداد اطّراده حتى يناير 1990، حينما وصل سعر البرميل 19.98 دولار/ برميل. وتوقف تصاعد السعر، بعدما بدأت الكويت والإمارات تزيدان الإنتاج، مما سبب تدنّيه، فبلغ 14.02 دولار/ برميل، حتى يونيه 1990، أي بانخفاض 30% عن سعر "الإشارة"، مما سبب نقصاً لدخل النفط في عدد من البلدان.

    لقد عَدَّ الرئيس صدام حسين، مبادرة الكويت إلى زيادة إنتاجها النفطي، استفزازية، بل خيانة. وهي أدت إلى انخفاض أسعار النفط العالمي، وإلى خسارة العراق، الذي يعتمد في 90% من وارداته على النفط، لحوالي 7 مليارات دولار، سنوياً، أي ما يوازي فوائد الديون السنوية، التي ينبغي له دفعها. لقد أصبح العراق، إذاً، مهدداً بالاختناق الفعلي.

رابعاً: مجلس التعاون العربي

1. فكرة إنشاء مجلس التعاون العربي، والتمهيد لها

    ظهرت فكرة إنشاء مجلس التعاون العربي، أول مرة، في عمّان، وبدأت مناقشتها في صيف 1988. ثم انتقلت إلى بغداد، التي وجدتها ملائمة لها، بعد أن رُفِضَتْ من مجلس تعاون دول الخليج العربية. ثم وصلت إلى القاهرة. ويرى بعض المحللين الإستراتيجيين، أن هذا المجلس كان خطوة غير موفقة للأسباب التالية:

أ. عدم وجود تواصل جغرافي بين أعضائه.

ب. ظهور الفكرة، بشكل من الأشكال، كأنها نوع من رد الفعل؛ إذ أعقبت نشأة مجلس تعاون دول الخليج العربية.

ج. أهداف أطراف المجلس، ليست متجانسة، بل كانت أقرب إلى الاختلاف منها إلى     التوافق أو التجانس. فكان ظاهراً، أن هدف الأردن، هو مواجَهة أزمته الاقتصادية ونتائجها السياسية المحتملة. كما كان هدف العراق مواجَهة ظروفه، الاقتصادية والاجتماعية وآثارها، الناجمة من حربه ضد إيران، واستقطاب مصر إلى جانبه، وتحييدها في أي صراع محتمل، يكون العراق أحد طرفيه. أمّا هدف مصر، فكان كسر طوق العزلة، والدخول إلى العمل العربي من أي باب، قد يؤدي إلى اجتياز مشكلاتها     المستعصية، بعد أن عُزِلَتْ عن العالم العربي، منذ اتفاقية كامب ديفيد. أمّا اليمن، الذي انضم إلى المجلس في اللحظة الأخيرة، قبل إعلان نشوئه، فقد كان يبحث عن داع إلى الاقتراب من القلب العربي، إضافة إلى أنه كان يبحث عن مطالب أمنية واقتصادية وسياسية.

2. الدوافع الحقيقية من إنشاء مجلس التعاون العربي

    في 20 أغسطس 1988، كانت الحرب العراقية ـ الإيرانية قد انتهت، بموافقة إيران على قرار مجلس الأمن، وقف إطلاق النار. وخرج صدام حسين منها زعيماً، في نظر بعض الجماهير العربية. فسعى، بعدها، إلى تثبيت فكرة "الزعامة الإقليمية".

    وكان عليه أن يتلقف هذه الفكرة، للحدّ من دور مصر العربي في المنطقة. فكان أمامه حلاّن:

أ. إمّا عزلها، وهذا ما لم يكن يستطيعه، بعد أن عادت إلى الجامعة العربية، لتمارس دورها في المنطقة العربية.

ب. أو استيعابها في دوافعه إلى السيطرة على منطقة الخليج، أو في أقل تقدير، تحييدها،    فانبثقت فكرة إنشاء مجلس للتعاون العربي، يضم كلاًّ من العراق والأردن ومصر، كسبيل إلى استقطاب مصر أو تحييدها.

    بدأت الفكرة، كما رواها الرئيس حسني مبارك[1]، أثناء الحرب العراقية ـ الإيرانية، بعرض الملك حسين، ملك الأردن، على الرئيس حسني مبارك، إنشاء "فيلق عربي"، يشترك فيه مصر والأردن، تحت مقولة "إن الخليج في خطر". وكان رد الرئيس حسني مبارك على الفكرة، أنه لا يشجعها؛ لأن مثل هذا الجيش، يمكن أن يؤدي إلى مشاكل كثيرة.

    وبعد ستة أشهر من طرح فكرة الملك حسين، تلقى الرئيس حسني مبارك رسالة مكتوبة، من ملك الأردن، تتضمن تفاصيل مشروع "الفيلق العربي"، الذي اقترح الملك حسين إنشاءه، من قَبْل! ورداً على هذه الرسالة، أرسل الرئيس حسني مبارك إلى الملك حسين، يسأله عدة أسئلة محددة:

أ. ما هو الهدف من إنشاء الفيلق العربي؟

ب. هل وافق رؤساء دول الخليج على فكرة الفيلق؟

ج. ما هو الموقف السوري؟ وهل يُسعد سورية إنشاء مثل هذا الفيلق؟

د. ما هو موقف العراق، وهو، الآن، في حرب ضد إيران؟

    وجاءت إجابة الملك حسين من عمّان، تقول: "إن الهدف من إقامة الفيلق العربي، هو مساعدة دول الخليج، عسكرياً. وقد وافق زعماء هذه الدول على المشروع، وكذلك العراق وسورية.

    وفي أول جولة للرئيس حسني مبارك، في دول الخليج، بعد استلامه رد عمّان، طرح سؤالاً واحداً على زعماء تلك الدول: "هل توافقون على قيام الفيلق العربي، الذي اقترحه الملك حسين؟". وكانت الإجابة واحدة، وإنْ كان بعضها مباشراً، والآخر حيِيّاً: "لسنا في حاجة، الآن، يا سيادة الرئيس، إلى مثل هذا الإجراء"! هكذا، رفضت جميع دول الخليج الفكرة. ويقول الرئيس مبارك: "قلت للملك حسين، إنني لم أجد أحداً موافقاً. والمفاجأة أنه لم ينزعج، حينما قلت له، إن الرؤساء أجابوني بعدم الموافقة.

    وبعد ستة أشهر أخرى، جدد الملك حسين مساعيه. وكانت، هذه المرة، من أجْل إنشاء مجلس للتعاون. في البداية، لم يتحمس الرئيس حسني مبارك للعرض. وعاد الملك حسين، يركز، بإلحاح واضح، على فكرة المجلس. ووافق الرئيس حسني مبارك عليها، بشرط أن يكون مجلساً للتعاون الاقتصادي. فقد كان الملك حسين، هو الوحيد الذي كان يطرح الفكرة، التي رشح لها مصر والعراق والأردن، حتى إن الرئيس العراقي، صدام حسين، لم يفاتح الرئيس حسني مبارك في موضوع إنشاء مجلس التعاون، إلاّ يوم توقيع الاتفاق في شأنه! حتى لا يفهم أنه وراء هذه الفكرة.

    وقبل توقيع الاتفاق، طرح الملك حسين فكرة ضم اليمن، حينما قال للرئيس حسني مبارك: "لماذا لا نضم اليمن إلينا؟ إن علي عبدالله صالح، رجل طيب، يا فخامة الرئيس". وكان رد الرئيس حسني مبارك: "أعتقد أن اشتراك اليمن في مثل هذا التجمع، سوف يزعج المملكة العربية السعودية. فهل أخذت رأي الملك فهد؟". فكان رد الملك حسين: "حقيقة، لم يحدث. ولكنني سوف أفعل".

    ورجا الرئيس مبارك الملك حسين، أن يشرح للملك فهد بن عبدالعزيز، في أول زيارة له إلى المملكة العربية السعودية، أن مجلس التعاون العربي، لم يُنشأ كرد فعل للنشاط المتزايد، لمجلس تعاون دول الخليج العربية. كما أن انضمام اليمن، في اللحظة الأخيرة إليه، ليس عملاً موجّهاً ضد المملكة العربية السعودية.

    وسافر الملك حسين إلى المملكة العربية السعودية، والتقى الملك فهداً. لكن خادم الحرمَين الشريفَين، تجنب، لأسباب رآها، أن تقترب مناقشاته مع الملك الأردني من هذا الموضوع. إذ إنه في اليوم المقرر لمغادرة الملك حسين المملكة العربية السعودية، طلب من الملك فهد تحديد فرصة لقاء، لأمر مهم، يريد أن يحدثه فيه، قبل أن يغادر المملكة. وكان الملك فهد، في هذا اليوم، مقيداً بحضور حفلة تخريج دفعة جديدة من الطيارين السعوديين، فدعا الملك حسيناً إلى حضورها؛ لأنه يعرف شغفه بالطيران. واقترح الملك فهد، أنه بعد انتهاء حفلة تخريج الطيارين، يستطيع الملك حسين، أن يتحدث في أي موضوع يشاء، وهما في الطريق إلى المطار.

    وانتهت حفلة تخريج الطيارين، وركب الملكان في سيارة واحدة. وأبدى الملك حسين ملاحظة، قال فيها: "إنه كان لديه ما يريد أن يحدث الملك فيه. ولكن الجو، الآن، غير مناسب". ورد الملك فهد، أن "هناك فرصة للقاء قادم بينهما، يبحثان فيه، على مهل، كل ما يعن لأي منهما".

    وفي اتصال بين الملك حسين والرئيس حسني مبارك، قال الملك الأردني، إنه لم يستطع مصارحة الملك فهد بموضوع مجلس التعاون، لأن خادم الحرمَين الشريفَين، كان مشغولاً.

    ورأى الرئيس حسني مبارك، ألاّ يترك الأمر عند هذا الحد، فقرر إرسال وزير خارجيته، الدكتور عصمت عبدالمجيد، إلى المملكة العربية السعودية، حاملاً رسالة منه، شارحاً موضوع انضمام اليمن إلى مجلس التعاون العربي.

    وعرض الدكتور عصمت عبدالمجيد الرسالة على الملك، الذي لم يكن مقتنعاً. وكان في كلامه ما يوحي بالإشارة إلى أنه لا يرى أن مصر مسؤولة عن انضمام اليمن، وإنما هو يضع المسؤولية على غيرها. وأكد، في نهاية اللقاء، أن مصر لم ولن تشارك في عمل، يشكل محوراً ضد أحد؛ وأنه مطمئن اطمئناناً تاماً بتحركات الرئيس حسني مبارك.

    وفي بغداد، بدأت خطوات التنفيـذ. وفي البداية، طرح الملك حسين مسودة اتفاقية تأسيس المجلس، على الرئيس حسني مبارك، والتي تضمنت، ضمن نقاطها، نقطتَين أساسيتَين:

أ. اتفاقية دفاع مشترك، يصبح، بموجبها، أي عضو في المجلس مشاركاً في أي حرب، سواء كانت هجومية أو دفاعية، يشترك فيها أو يقدِم عليها أي طرف من أطراف المجلس.

ب. إدماج جميع أجهزة الاستخبارات، العامة والعسكرية، وأجهزة الأمن القومي، في جهاز واحد، تحت قيادة مجلس التعاون.

    ومن الفور، قرر الرئيس حسني مبارك رفض مسودة هذه الاتفاقية.

    وعند الموعد المحدد لتوقيع تأسيس المجلس، في 16 فبراير 1989، عاد القادة الثلاثة (الملك حسين، صدام حسين، علي عبدالله صالح)، يحاولون، من جديد، طرح فكرة اتفاقيتَي الدفاع المشترك وإدماج أجهزة الاستخبارات. وفي تلك الليلة، استمر الحوار حتى بعد منتصف الليل، وحاول الملك حسين، جاهداً، تمرير الاتفاقيتَين، ولم ينجح، لرفض الرئيس حسني مبارك القاطع لهذه الفكرة. ونتيجة لإصرار الرئيس حسني مبارك على موقفه، وافق الزعماء الثلاثة على أن يكون مجلس التعاون في إطار اقتصادي فقط، فوُقِّعت وثيقة تأسيسه، في قصر المؤتمرات، في بغداد، يوم الخميس، 11 رجب 1409هـ، الموافق 16 فبراير 1989م، من دون إدراج فكرتَي الدفاع المشترك وإدماج أجهزة الاستخبارات والأمن القومي في جهاز واحد. وفي 19 فبراير 1989، أعلن إنشاء مجلس التعاون العربي.

    وفي 15 يونيه 1989، في قصر المنتزه، في مدينة الإسكندرية، كان، لقاء آخر، ومحاولة أخرى، يقول عنها الرئيس حسني مبارك: "جاءوا للإسكندرية في شهر يونيه 1989، حاملين نفس النقطتَين. وهنا، بدأت الوساوس تساورني، خاصة عندما طلب منّي علي صالح الجلوس معاً، لنناقش الموضوع. فقلت له إن مثل هذا الأمر مستحيل، بل أضفت أن الاتفاقية الدفاعية، تضرك أنت، قبْل أي طرف آخر، وتفسد علاقتك مع المملكة العربية السعودية، وتوقف مساعداتها لك. وفي اليوم التالي جاءوا بوثيقتَين للتوقيع، إحداهما تتضمن البندَين، والأخرى خالية منهما. وصممت على موقفي. وحاول صدام حسين أن يصل إلى حل وسط. فرفضت، وقلت له: إن مثل هذه الاتفاقية، يرفضها البرلمان، والرأي العام، في مصر. وقد تستطيع أنت تمريرها في العراق، لكن هنا، الرأي العام له وضعه". وأضاف الرئيس حسني مبارك: "والواضح أنه كان يسعى لهذا الاتفاق، حيث تكون للدول الأربع قوات في العراق، يستخدمها في الغزو. وهذا ما أكده غزوه للكويت. ولهذا، رفضنا، وإنْ كانت الصورة لم، تكن بهذا الموضوع".

    وبدا واضحاً، أن مصر تريد أن تحصر مجلس التعاون العربي كله، في إطار المنافع الاقتصادية، فلا يتجاوزها. أمّا بالنسبة إلى الأمن، العسكري والسياسي، فإن رؤاها كانت تناقض رؤية بقية الشركاء.

    هكذا، يتضح أن إنشاء مجلس التعاون العربي، هو، في الأساس، إنشاء مجلس تعاون عسكري، يخدم نيات الرئيس العراقي المستقبلية. وقد وصفه الرئيس حسني مبارك، في خطابه، يوم الخميس، 27 سبتمبر 1990، في الإسكندرية، أمام ضباط وجنود الفرقة الثالثة المشاة الآلية وجنودها، المتوجهين إلى المملكة العربية السعودية بأنه مجلس تآمر عربي، إذ قال: "ده ليلة ما روحنا نمضي في بغداد، طلبوا اجتماع، الساعة الواحدة، علشان النقطتَين دول (الدفاع المشترك، وإدماج أجهزة الاستخبارات). وفهمت، طبعاً، في النهاية، أن همّه دول الركيزتَين بتاع مجلس التآمر... مجلس التعاون... مهو مجلس تآمر فعلاً. أنا كنت حاسس بهم. وأنا بأقولها بصراحة. عمل إيه مجلس التعاون. دي مقصود بها، في النهاية، التآمر على الكويت. ومن الكويت، كان حا يخش على الخليج العربي. واحد عاوز يسيطر على البترول، علشان، بعد كده، يمسك مصر من رقبتها..."

خامساً. التمهيد العراقي، العسكري والسياسي، لغزو الكويت

    حينما شعر صدام حسين، أن حربه ضد إيران، لم تحقق له الأهداف التي سعى إليها، يوم أعلن، في 17 سبتمبر 1980، إلغاء اتفاقية الجزائر (6 مارس 1975)، وبدء الاجتياح العسكري العراقي الأراضي الإيرانية، في الساعة 1400، من يوم 22 سبتمبر 1980 ـ وجد نفسه مرغماً، أن يظل، لثماني سنوات كاملة، مشغولاً بهذه الحرب، ما استدعى تأجيل خطوات جدية، لتنفيذ المشروع القومي العراقي.

    وعقب قبول إيران قرار مجلس الأمن، الرقم 598، الصادر في 20 يوليه 1987، التقط صدام أنفاسه، وطفق يعد العدة للمشروع القومي العراقي، مرة أخرى. واستغل مجلس قيادة الثورة العراقية، كل دقيقة، منذ ذلك الوقت؛ فعقد اجتماعاً في أواخر يوليه 1988، وضع خلاله الخطوط العريضة لملامح "يوم النداء"، الذي يسفر، في النهاية، عن ضم الكويت إلى العراق. وتوالت الاجتماعات، التي انبثق منها:

اللجنة العسكرية: بقيادة الرئيس العراقي، صدام حسين. وتنحصر مهمتها في إعداد القوات المسلحة العراقية، وتعويض النقص في عدد الجنود؛ وتزويدها مزيداً من الدبابات، التي تستطيع السيطرة على الكويت، كونها السلاح الفعال، نظراً إلى الطبيعة الجغرافية بين العراق والكويت.

اللجنة السياسية:   تداول الإشراف عليها عدد غير معروف، من قادة البعث العراقي. وكانت مهمتها:

1. إثارة النزاع القديم، المتعلق بمسألة الحدود.

2. تجديد المطالبة بتأجير جزيرة بوبيان، لتحقيق مشاركة القوات البحرية العراقية، المحدودة، العدد، وذات الأسلحة الأقل تطوراً، في الخليج العربي.

    واتفق أعضاء اللجنتَين، أن يظل المشروع طي الكتمان، فلا يطلع عليه سوى عدد محدود من قادة مجلس الثورة. كما اتفقوا، كذلك، على أن تنجز كل لجنة المهام المكلفة، بشكل متوازن مع عمل الأخرى. وحُدد أواخر يوليه وأوائل أغسطس 1990، موعداً للتنفيذ. واختِير اسم حركي لعملية الغزو: "يوم النداء".

1. أعمال اللجنة العسكرية

أ. عملت على زيادة عدد الدبابات، في القوات البرية، إلى 5530 دبابة، إلى جانب 1500 عربة قتال مدرعة، و500 مدفع هاوتزر ذاتي الحركة، و200 راجمة صواريخ متعددة الفوهات، و3 آلاف قطعة مدفعية متعددة العيارات. الأمر الذي أدى إلى تراكم الديون، حتى بلغت 500 مليون دولار.

ب. شراء ما يقرب من 73 طائرة، مقاتلة ومقاتلة قاذفة، من نوع "سوخوى" (SU-25)، خلال الفترة من أغسطس 1988 حتى يوليه 1990، مع اكتمال تدريب الطيارين العراقيين على استخدامها. إضافة إلى 16 طائرة أخرى، من نوع "سوخوى" (SU-24).

ج. عملت اللجنة على تطوير القوات الجوية. فأقنعت فرنسا ببيع العراق نظام الصاروخ الإلكتروني المعقد، من نوع (AS-530)؛ وهو صاروخ جو/جو، متعدد المهام. واضطلع الخبراء الفرنسيون بتركيبه على طائرات الميراج، من نوع (F-1) التي تملك منها بغداد 64 طائرة:

(1)  40 طائرة، من نوع (F1-EQ5) المزودة صواريخ "إكسوست EXOCET " الفرنسية. وهو إجمالي ما تملكه القوات الجوية العراقية من هذا النوع، حتى أواخر 1990.

(2)  24 طائرة، من نوع (F1-EQ5-200) ابتاعها العراق لتركيب صاروخ جو/جو الجديد (AS-530) عليها.

د. تطوير طائرات الاستطلاع العراقية، من نوع "أليوشن 67" السوفيتية، مقابل امتلاك المملكة العربية السعودية، طائرات الإنذار المبكر الأمريكية، من نوع "أواكس". كما أدت مفاوضات العراق مع شركة "طومسون" الفرنسية، المتخصصة في صناعة السلاح، إلى إمداده بأنظمة رادار متقدمة، من نوع "تايجر TIGER " الهدف منها التشويش على طائرات الأواكس السعودية؛ إذ إن نظام الرادار (TIGER) هو الأحدث، ويتمتع بمقدرة فائقة، تعززها تعقيدات إلكترونية عالية التقنية، رفض الفرنسيون الإفصاح عنها، واشترطوا أن يضطلع خبراء الشركة بصيانتها وتركيبها، من دون مشاركة من العراقيين.

هـ. تنشيط العمل في برنامج تطوير صواريخ أرض/أرض، الإستراتيجية.

و. وفي 6 فبراير 1990، أعلن سمير السعدي، وكيل وزارة الصناعة والتصنيع الحربي، العراقية، أن لدى العراق الآن، قمرَين صناعيَّين، جاهزَين للإطلاق، صمِّما وصنِّعا بأيدٍ عراقية.

        وسبق أن أعلن العراق، في 7 ديسمبر 1989، أنه أطلق، بنجاح، صاروخاً، إلى الفضاء، أُطلق عليه اسم "العابد"، يبلغ طوله 15 متراً، ووزنه 48 طناً، ويتكون من ثلاث مراحل، ويشكل المرحلة الأولى من برنامج الفضاء العراقي. وسيحمل قمراً صناعياً للأبحاث العلمية إلى الفضاء.

ز. وضعت اللجنة العسكرية، بقيادة صدام حسين، في حسبانها، تعويض النقص في عدد القوات البرية العراقية وتسليحها، من خلال:

(1)  إعداد 8 فِرق، مدرعة ومشاة آلية، يكتمل تدريبها في أوائل 1990.

(2)  إعداد 42 فِرقة مشاة.

(3)  زيادة فِرق الحرس الجمهوري، لتصبح 8 فِرق، مدرعة ومشاة ومشاة آلية.

   ونظراً إلى النفقات الباهظة التي استدعتها الإعدادات العسكرية، ازدادت ديون العراق تراكماً. وللتغلب على ذلك، لجأ إلى تأجيل دفعها، من خلال:

أ. زيادة الحصة النفطية للدول المصدرة للسلاح، مع منحها تخفيضاً، يقل عن سعر النفط العالمي، آنذاك، خاصة بولندا، التي اعتمد عليها، كلية، في تسليح قواته البرية. وهو ما أكدته، مؤخراً، جريدة "جازيت" البولندية، الناطقة باسم حزب "تضامن".

ب. إغفال الديون المستحقة عليه للدول العربية، والبالغة 40 مليار دولار، منها 14 ملياراً للكويت فقط، بنسبة 35% من إجمالي الديون العربية؛ تليها دولة الإمارات، ثم المملكة العربية السعودية، وقطَر، والبحرين، وسلطنة عُمان، بالترتيب.

ج. وقف إعمار المدن العراقية، التي دمرتها الصواريخ الإيرانية، أثناء ما عرف، آنئذٍ، بحرب المدن، انتظاراً لما ستثيره اللجنة السياسية المشكلة للحرب، ومدى الحاجة إلى الأموال لإعمار هذه المدن.

د. حيال تهديد فرنسا بالتوقف عن صيانة المعدات العسكرية المتطورة، رداً على توقف العراق عن دفع أقساط ديونه العسكرية، استطاع صدام حسين، خلال شهرَي أبريل ومايو 1990، التوصل إلى اتفاق على إعادة جدولة الديون الفرنسية كاملة، مما اتاح له، صيانة عتاده العسكري الإستراتيجي، قُبيَل "يوم النداء" بأسابيع قليلة. أمّا في شأن ألمانيا الغربية، والتي بلغت الديون العراقية المستحقة لها 3 مليارات دولار، فإن المفاوضات، لم تسفر عن اتفاق، مثلما توقع صدام، في موعد، غايته مارس 1990.

2. أعمال اللجنة السياسية

    بينما حُمَّ النشاط إلى إعداد الجيش العراقي للغزو، كانت اللجنة السياسية، تعِد خطة طويلة المدى، من أجل:

أ. إعداد الشعب العراقي، من خلال إغداق الهدايا (فيلات) على ضحايا الحرب العراقية ـ الإيرانية، لمحو آثار الخراب والدمار، التي لحقت بكل منزل عراقي؛ إضافة إلى بعض الإصلاحات السياسية، التي تعَد مكسباً للشعب العراقي، وهي كون الرئيس صدام حسين رئيساً للعراق، مدى الحياة.

ب. تهيئة شعوب العالم، خاصة العربية، لتقبّل حقوق عراقية في الكويت، حان وقتها.

    وقُبَيل انتهاء الحرب العراقية ـ الإيرانية، بحوالي شهرين، وفي مؤتمر القِمة العربية، في الجزائر، الذي عُقد في الفترة من 7 إلى 9 يونيه 1988ـ بدا واضحاً أن العراقيين، بدأوا العد التنازلي، لوضع نهاية للحرب ضد إيران. وفي الوقت عينه، بدأ التلميح إلى إثارة المشاكل الحدودية مع الكويت. ففي إحدى الغرف الملحقة بقاعة مؤتمر القِمة، في فندق "الأوراسي"، في الجزائر، انفرد وزير الخارجية العراقي، طارق عزيز، بوزير الخارجية الكويتي، الشيخ الصباح الأحمد الصباح، وقال له: "إننا مقبِلون على مرحلة ما بعد الحرب. وقد كلفتني القيادة العراقية، أن أبلغكم رغبة العراق بحل موضوع الحدود، المعلق بيننا".

    وفي يوم الجمعة، 23 فبراير 1990، يوم وصول الرئيس العراقي إلى عمّان، لحضور مؤتمر قمة مجلس التعاون العربي، صرح إلى التليفزيون الأردني، أن "البلد، الذي يكون له نفوذ في الخليج، يكون له الهيمنة على نفطه. ومن هنا، فإن هذا البلد (العراق) سوف يكون قادراً على ممارسة تفوّقه، كقوة عظمى، حيث لن يكون هناك قوة أخرى، تستطيع منافسته في المنطقة".

    وفي يوم السبت، 24 فبراير 1990، وأثناء افتتاح القمة الرابعة لمجلس التعاون العربي، في عمّان (أي قبل ثلاثة أشهر تقريباً من قمة بغداد الاستثنائية، ونحو خمسة أشهر من اجتياح الكويت)، ألقى الرئيس العراقي كلمة، طرح فيها أبعاد القضية على المجلس، وألمح أن العراق له حقوق لدى الكويت، وأنه لن يقف مكتوف الأيدي، ما دامت الكويت والإمارات، ترفضان إسقاط ديونهما عليه. وأضاف صدام، في جلسة مغلقة، ضمت الزعماء الأربعة لمجلس التعاون العربي، أن العراق، طالب الدولتَين، مراراً، بإسقاط الديون، دون جدوى. ويبدو أنهم، أي الخليجيين، نسوا أو تناسوا، أن العراق كان يدافع عنهم، قبْل أن يدافع عن حقوقه. (أُنظر وثيقة نص كلمة الرئيس العراقي، صدام حسين في افتتاح القمة الرابعة لمجلس التعاون العربي، في عمّان في 24 فبراير 1990)

        وانتقلت اللجنة السياسية من مرحلة التلميح إلى مرحلة التصريح:

أ. في 3 مايو 1990، انتقد وزير الخارجية العراقي، طارق عزيز، بعنف، الدولة المسؤولة عن زيادة إنتاج منظمة الدول المصدرة للنفط، "الأوبك"، من دون أن يحدد اسمها، وذلك خلال اجتماع لجنة المراقبة، التابعة للمنظمة، في جنيف. وقالت الأوساط النفطية، إن الكويت، هي إحدى الدول المعنية.

ب. وفي 17 يوليه 1990، اتهم الرئيس العراقي بعض قادة دول الخليج العربية، باتّباع سياسة موالاة لأمريكا، ترمي إلى خفض أسعار النفط الخام. وأوردت وكالة الأنباء العراقية جزءاً من حديث الرئيس صدام حسين، الذي أدلى به، في الجلسة المغلقة للقِمة العربية، التي عقدت في بغداد، في المدة من 28 إلى 30 مايو، يؤكد فيه، أن الحروب يمكن أن تنشب "لأسباب اقتصادية".

ج. وفي 18 يوليه 1990، نشرت الحكومة العراقية مذكرة، كانت قد أرسلتها، في 15 يوليه، إلى أمين عام الجامعة العربية، تتهم فيها الكويت "بنهب" النفط العراقي، منذ عام 1980، وذلك بضخه من حقل الرميلة، جنوبي العراق، و"بقضم" أراضيه. وطالب العراق بأن تدفع الكويت مليارين وأربعمائة مليون دولار، قيمة النفط "المنهوب". ووصف تصرف الكويت، بأنه عدوان عسكري على العراق. كذلك، اتهمت بغداد الكويت، بأنها استغلت حرب العراق ضد إيران، في تنفيذ خطة تقدم تدريجي، ومبرمج، في اتجاه الأراضي العراقية.

د. وفي 31 يوليه 1990، بدأت المباحثات العراقية ـ الكويتية، في جدة، على الرغم من النية المبيتة، من قبْل، في غزو الكويت، إمعاناً في التمويه.

هـ. وفي 1 أغسطس 1990، عُلِّقت محادثات جدة، من دون أي اتفاق، وأُعلن إغلاق الحدود البرية، بين العراق والكويت، حتى موعد غير محدد.

و. وفي 2 أغسطس 1990، بدأ الغزو العراقي للكويت.



[1] قصة إنشاء مجلس التعاون العربي، رواها الرئيس حسني مبارك، في تصريح له، أثناء لقائه كبار الكتّاب والمفكرين، عقب افتتاحه معرض الكتاب، في القاهرة، في 8 يناير 1991