مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

قراءة في فكرِ صدّام (تابع)

          اتسم موقف صدّام من الولايات المتحدة بالتناقض. فمن جهة، كان يطلق التصريحات المعادية لأمريكا، كما فعل حين طالب بانسحاب البحرية الأمريكية من الخليج في فبراير عام 1990. ومن جهة أخرى، كان يتوق إلى فتح حوار مع الولايات المتحدة، ويريد من واشنطن أن تعترف بأهميته! ومن الواضح أنه لم يكن يدرك مدى الضرر الذي ألحقه بنفسه وبلاده بسبب أقواله وأفعاله في ذلك الوقت، وكيف أنها ألَّبت عليه الرأي العام العالمي.

          ما أصعب أن ينسى المرء العلاقات الوثيقة التي كانت تربط العراق بالولايات المتحدة أثناء حربه على إيران! فكم من مرة حصل العراق على أسلحة أمريكية، ومعلومات قيِّمة عن التحركات الإيرانية، فضلاً عن الدعم العسكري الأمريكي ضد البحرية الإيرانية! ففي المراحل الأخيرة من الحرب، فتحت الولايات المتحدة بالفعل جبهة ثانية في الخليج ضد إيران. وكانت العلاقات الأمريكية- العراقية وثيقة للغاية. وعندما أصاب صاروخ عراقي من نوع إكسوست exocet خطأً السفينة الحربية الأمريكية ستارك stark في 17 مايو عام 1987، وقُتل في الحادث 37 جندياً أمريكياً، تغاضت الولايات المتحدة سريعاً عن الموضوع بعد أن دفع العراق تعويضات مالية قدرت بمبلغ 27 مليوناً من الدولارات. وكان سفير صدّام حسين لدى الولايات المتحدة، نزار حمدون، في ذلك الوقت، السفير المدلل لدى واشنطن وأقرب المقربين إلى المسؤولين الأمريكيين على أعلى المستويات.

          كانت العلاقات الأمريكية- العراقية جدّ وثيقة، حتى إن صداماً، على ما يبدو، لم يستطع التأقلم مع التغير المفاجئ الذي طرأ على موقف واشنطن منه في الأشهر الأولى من عام 1990 . وحتى اللحظة الأخيرة، وربما بعد ذلك أيضاً، لم يكن صدّام ليصدق أن الولايات المتحدة يمكن أن تتخذ منه موقفاً عدائياً حقيقياً، أو أنها عازمة على شن هجوم عليه. وظن، على ما يبدو، أن نشْر قوات التحالف لم يكن سوى خدعة. ومما شجعه على التمادي في ظنه ذاك أن إدارة الرئيس بوش اتخذت تجاهه موقفاً متناقضاً خلال الفترة التي سبقت نشوء الأزمة. فعلى سبيل المثال، كان للولايات المتحدة دورٌ في إعاقة الشبكات الدولية التي كانت تزوِّده بالأسلحة، وفي الوقت نفسه تجاوبت معه وتساهلت واتخذت جانب اللين لاحتوائه وتهذيب تصرفاته وتوجيهه نحو الاعتدال.

          ففي يوم 12 إبريل عام 1990، اجتمع وفد أمريكي مؤلف من خمسة أعضاء في مجلس الشيوخ، برئاسة زعيم الأقلية روبرت دول robert dole وعضوية كل من جيمس ماكلور james mcclure، وآلن سيمبسون alan simpson وفرانك موركـوفسكي frank murkowski وهوارد متزنبوم howard metzenbaum، إلى صدّام حسين لمدة ساعتين في مدينة الموصل، وأكدوا له رغبة الرئيس بوش في تحسين العلاقات معه.

          أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية تعليماتها إلى أبريل جلاسبي april glaspie، سفيرة الولايات المتحدة لدى بغداد بالتودد إلى صدّام حسين عَلّها تعيده إلى جادة الصواب. وتدخل الرئيس بوش شخصياً لمساعدة العراق على الحصول على القروض التي طلبها. ولعل هذا كله أقنع صدّام حسين بأن واشنطن تتخذ منه موقفاً ودياً. وعندما اتخذ قراره بغزو الكويت لم يخطر بباله قط أن الولايات المتحدة سوف تتدخل لإحباط مخططاته. وكان ذلك خطأً من جملة الأخطاء الفادحة التي ارتكبها.

          يبدو أن صداماً أساء تقدير الظروف الدولية التي كانت تتغير بسرعة كبير. آنذاك. كان يدرك، بداهة، أن الاتحاد السوفيتي في طريقه إلى الانهيار، ولعله ظن أن ذلك يخدم مصلحته في تخطيطه لغزو الكويت. ولعله قد بدا للفكر العراقي أن مصلحة الولايات المتحدة في المنطقة تنحصر فقط في الدفاع عن النفط، وضمان أمن إسرائيل ومنع انتشار النفوذ السوفيتي أو أي تهديد يصدر عنه. أما النفط، فكان صدّام على أتمّ الاستعداد لتقديم ضمانات مؤكدة بأنه لن يتسبب بتعطيل تدفقه ( كما أخبر السفيرة جلاسبي بذلك ). أما إسرائيل فلم تكن لديه النيّة لتهديدها. وأما خطر الاتحاد السوفيتي، فكان آخذاً في الانحسار. وتوصل صدّام إلى نتيجة مفادها أنه ليس هناك ما يخشاه من جانب الولايات المتحدة، إذ هو لا يهدد أياً من مصالحها. ولعل أقصى ما يمكن أن يواجهه منها لن يتجاوز المقاومة الشكلية فقط ( استنكار وإدانة وشعور بقلق ). فنهاية الحرب الباردة لم تقيد حركته أبداً، بل أعطته المزيد من حرية الحركة. وظنّ صدّام كذلك أن القوى العظمى ستنسحب من النزاعات في الشرق الأوسط - مثل نزاعه مع الكويت - كما كانت تفعل في النزاعات الإقليمية في جميع أنحاء العالم. لذا، توقع أن يُترك له الحبل على الغارب لينفذ مخططاته. لكنه لم يدرك أن وضع الكويت مختلف عن الوضع في أنجولا وكمبوديا، على سبيل المثال. فالدول الغربية لم تكن على استعداد للسماح لصدام بابتلاع الكويت بثرواتها الخارجية التي تقدر بمائة مليار من الدولارات، واحتياطيها الهائل من النفط، ودورها الحيوي في الصناعات الغربية!

          وعَليَّ أن أذكر أن الولايات المتحدة لم تحذر صداماً تحذيراً صريحاً من مغبة استخدام القوة في نزاعه مع الكويت وفي تقديري، أن ذلك كان خطأ دبلوماسياً فادحاً، ربما يرجع إلى انشغال الولايات المتحدة، في ذلك الوقت، بانهيار الشيوعية في أوروبا الشرقية. ومن اللافت للنظر، أن الولايات المتحدة كررت الخطأ نفسه مرات عدة، مما دفع بعض المحللين إلى الاعتقاد بأنها نصبت فخاً لصدام.

          فعلى سبيل المثال، حين زار جون كيلي john kelly، مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى، بغداد في شهر فبراير عام 1990، أعرب عن عدم مبالاة الولايات المتحدة بنزاع العراق مع الكويت في شأن الحدود. كما أن السفيرة جلاسبي قالت لصدام في اجتماعهما المشؤوم، الذي عُقد في ساعة متأخرة من ليلة الرابع والعشرين من يوليه: "ليس لدينا قط مواقف محددة في شأن النزاعات العربية - العربية، مثل نزاعكم الحدودي مع الكويت". ومن الواضح، أنها كانت تنفذ أوامر رسمية، وأن صداماً صدّق كلماتها. وفي الأيام القلائل التي سبقت غزو الكويت أكدت مارجريت تتويلر margaret tutwiler، المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية، في الرابع والعشرين من يوليه، كما أكد جون كيلي نفسه في 31 يوليه، أنه ليس لدى الولايات المتحدة اتفاقية دفاع مشترك مع الكويت، وليس بينهما أي التزام دفاعي خاص. وسواء أكانت هذه التصريحات متعمدة أم لا، فإنها تُعَد إشارات دبلوماسية خاطئة شجعت صداماً، بلا ريب، على تنفيذ خطته.

          لم تغادر السفيرة جلاسبي بغداد بعد اجتماعها إلى صدّام حسين، لقضاء إجازتها كما كان مفترضاً. فقد علمتُ من مصادر موثوقة أن صداماً طلب منها أن تحمل رسالة منه إلى الرئيس بوش وأن تعود بالرد فوراً إلى بغداد. وكانت فحوى رسالة صدّام شيئاً كهذا: "تعلمون أنني انتصرت في حربي على إيران. ولكن بدلاً من مكافأتي ضَيَّق عليَّ الكويتيون والبريطانيون الخناق، أرجو أن تأخذوا في اعتباركم أن سجلي في شأن النفط نظيف تماماً، ولم أتصرّف قط تصرفاً أهوج أو غير مسؤول في مجال النفط، ولن أفعل ذلك أبداً. أريد أن يستمر الحوار بيننا. فأنا الرجل الذي يمكنكم الاعتماد عليه والتعامل معه في المنطقة".

          هذه الرسالة، التي أعتقد أنها دقيقة حسبما علمتُ من المصدر الموثوق، تشير إلى أن صداماً كان يتوقع أن استيلاءه على الكويت أمرٌ لن يعرِّضه لمساءلة أو عقاب، بل كان يتطلع إلى إجراء مفاوضات وإقامة علاقات في المستقبل مع الولايات المتحدة تؤكد صدارته الإقليمية في المنطقة.

          لكن، لم يخطر ببال أحد في العالم، الغربي أو العربي، أن صداماً كان يخطط للاستيلاء على الأراضي الكويتية كلها. فقد ساد الاعتقاد في أوساط الاستخبارات الغربية أن صداماً ربما يحتل جزيرتي وربة وبوبيان المقابلتين لميناء أم قصر على أبعد تقدير، وربما احتل كذلك حقل نفط الرميلة الشمالي الذي يقع على الحدود العراقية- الكويتية. ولو أنه فعل ذلك لما استطاعت أية جهة خارجية أن تفعل شيئاً إزاءه!

          وإن كان صدّام قد أساء تقدير رد فعل المجتمع الدولي فإنه، بالمثل، أساء تقدير رد فعل المملكة إلى حدٍّ بعيد. وهذا خطأ جسيم لا يقلّ خطورة عن خطئه الأول. ويبدو أنه عوّل على أن المملكة لن تجرؤ على استدعاء قوات أجنبية إلى أراضيها. ولعل تقديره لأسوأ الاحتمالات، في حال الاستدعاء وإذا بلغ الأمر حد النزاع المسلح، هو أن تقوم البحرية الأمريكية بقصف قواته، أو أن تقوم قوات مشاة البحرية الأمريكية بهجوم برمائي، وفي هذه الحالة تستطيع قواته التصدي للهجوم الأمريكي كما فعلت، من قبل، أثناء مجابهتها للهجمات الإيرانية المتكررة أثناء الحرب. وظن صدّام على ما يبدو ، أنه ما من رئيس أمريكي يستطيع المجازفة بإقحام الجنود الأمريكيين في حرب طويلة الأمد في الخليج بعد المآسي التي تعرَّض لها الأمريكيون في فيتنام والنكسة التي حلّت بمشاة البحرية الأمريكية في لبنان في أوائل الثمانينات.

          ولو كانت هذه الأفكار هي حقاً ما دار في ذهن صدّام، لكانت برهاناً آخر على جْهله بعمق الإصلاح والتحديث اللذين أُدخلا على القوات المسلحة الأمريكية في عهد الرئيس ريجان. وُيعَدّ كاسبار واينبرجر ، الذي شغل منصب وزير الدفاع في فترة رئاسةالرئيس ريجان من 1981 وحتى 1988، هو باعث النهضة التي شهدتها العسكرية الأمريكية بعد التقلص الذي عانته عقب حرب فيتنام. وتتلخص الإنجازات التي حققها واينبرجر في ثلاثة تحولات أساسية هي:

أولاً، أدّت زيادة المرتّبات والامتيازات لرجال القوات المسلحة إلى جعل التطوع أكثر إغراءً، كما اجتذبت عناصر أفضل من الشباب. فعلى سبيل المثال، علمتُ خلال حرب الخليج أن كل ضباط القوات المسلحة الأمريكية يحملون تقريباً شهادات جامعية، بل إن كثيراً منهم حاصلون على درجتَيْ الماجستير والدكتوراه.

ثانياً، الإسراع في شراء المعدات العسكرية مما نتج منه زيادة عدد الطائرات والسفن والدبابات والمعدات الحربية الأخرى.

ثالثاً، فتح الباب على مصراعيه أمام تمويل التقنيات العسكرية الحديثة، مما أدى إلى إدخال الأسلحة "الذكية" وعدد آخر من الأسلحة الجديدة التي استخدمت للمرة الأولى في حرب الخليج.

          ويبدو، كذلك، أن صداماً لم يدرك أن القوات الأمريكية حققت مستوى عالياً من الاستعداد القتالي. كما لم يستوعب مضمون الإشارات الكثيرة التي صدرت عن واشنطن اعتباراً من شهر أغسطس، والتي قد يكون من المفيد ذكر بعضها في الفقرات التالية.

          ألقى الرئيس بوش في مكتبه البيضاوي في الثامن من أغسطس، كلمة جاء فيها:

"أولاً، نطالب بانسحاب القوات العراقية من الكويت انسحاباً كاملاً وفورياً ودون قيد أو شرط. ثانياً، يجب إعادة الحكومة الكويتية الشرعية إلى السلطة. ودعوني أوضح لكم، أن استقلال المملكة العربية السعودية ، بصفتها دولة ذات سيادة، أمر حيوي لمصلحة الولايات المتحدة. وهذا القرار الذي أتفِق في شأنه مع زعماء الكونجرس ينبع من الصداقة القائمة بيننا، منذ زمن بعيد، والعلاقات الأمنية التي تربطنا".

          وفي 8 نوفمبر عام 1990، أعلن الرئيس بوش عن تعزيزات ضخمة للقوات الأمريكية في المنطقة لكي يعطي قوات التحالف ما وصفه بـ "الخيار العسكري الهجومي".

          وفي 9 يناير عام 1991، كتب رسالة إلى صدّام سلّمها جيمس بيكر james baker إلى طارق عزيز في جنيف لم تدع مجالاً للشك في النوايا الأمريكية، جاء فيها:

"إذا لم تنسحب من الكويت انسحاباً كاملاً ودون قيد أو شرط فإنك سوف تخسر أكثر من الكويت. إن القضية هنا ليست قضية مستقبل الكويت، فالكويت ستُحرر، بلا شك، وحكومتها ستعود بالتأكيد. إنها قضية مستقبل العراق. والخيار لك. فإذا اندلعت الحرب، فإنها ستكون وبالاً عليك وعلى بلدك".

          وأخيراً في 12 يناير، وقبل اندلاع الحرب بأربعة أيام، صدر قرار مشترك عن مجلسي الكونجرس يمنح الرئيس بوش صلاحية استخدام القوة في الخليج. اتخذ القرار بأغلبية 52 : 47 صوتاً في مجلس الشيوخ، وبأغلبية 250 : 183 صوتاً في مجلس النواب، إلاّ أن صداماً لم يُعِر هذه الإشارات، وما أكثرها، أي اهتمام!

          تنبع أحلام صدّام وأوهامه، دون الدخول في تفسير مطول، من دوافع مختلطة، وأمانٍ كثيرة. كان مفلساً ومحتاجاً إلى مساعدات مالية ضخمة دون إبطاء. لكنه وجد أن الكويت ترفض إلغاء ديونه، التي تراكمت أثناء الحرب، كما ترفض منحه قروضاً جديدة، بل تدفع به نحو الإفلاس حين تُغْرق السوق بالنفط. والأسوأ من ذلك، أن الكويت كانت تحرمه من منفذٍ إلى جزيرتي وربة وبوبيان. لذلك، قرر الحصول على مطالبه بالقوة، ولو أدى ذلك إلى أزمة دولية. وظن بالتأكيد أنه لن يواجَه بتحدٍّ عسكري، سواء أمِنَ العرب كان أم من الغرب، وأنه متى أصبح سيد الخليج، فسوف يتمكن من حل صِعَابِه المالية كلها وستكون واشنطن مجبرة على الاعتراف بدوره المهم الجديد. هذا هو تفسيري الخاص لتقديرات صدّام وحساباته الخاطئة.

سابق بداية الصفحة تالي