مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

أهدافُ التحَالف العربي من الحَرب (تابع)

          في 23 يوليه عام 1990، أي قبل الغزو بتسعة أيام، عقدت لجنة الضباط العليا اجتماعاً في مقر وزارة الدفاع والطيران برئاسة الفريق أول محمد الحمّاد، رئيس هينة الأركان العامة. حضرتُ الاجتماع مع قادة القوات البرية والجوية والبحرية ورئيس هيئة استخبارات وأمن القوات المسلحة، إضافة إلى مدير إدارة شؤون ضباط القوات المسلحة. وكنّا قد تلقينا تقريراً، في الليلة السابقة، من الملحق العسكري السعودي في بغداد يفيد بتحرك المدرعات العراقية في اتجاه الكويت.

          لم تجد اللجنة، حتى ذلك الحين، في ما يحدث حولها ما يدعوها إلى القلق. ولا ننكر أن الخطاب العنيف الذي ألقاه صدّام قبل بضعة أيام في 17 يوليه مهاجماً فيه الكويت والإمارات العربية المتحدة، قد أشاع جواً من الاضطراب. ولكن، والحق يقال، لم يخطر ببال أحد، في العالم العربي أو الغربي، أن صدّام حسين كان يخطط لهجوم فعلي على الكويت وأنه ينوي احتلالها بالكامل! فما كان ذلك الاحتمال ليدور بخلد أحد، مهْما شطح به الخيال. فالعقل البشري يفكر في المألوف ويتوقع المقبول ويستبعد الشاذ وغير المعقول. ولهذا السبب، ينجح المعتدون والثوريون، عادة، في تحقيق عنصر المفاجأة.

          وعُدَّت تهديدات صدّام نوعاً من الخداع. فقد كانت أساليبه الخرقاء في الابتزاز معروفة تماماً. كان كثيراً ما يحصل من طريق الابتزاز على أموال طائلة من دول الخليج، سواء خلال حربه على إيران أو بعدها. كما أن الاتهامات التي وجَّهها إلى الكويت والإمارات لم تكن سوى محاولة أخرى للابتزاز. وكان المأمول شراء سكوته بالمال ليسود الهدوء مرّة أخرى في المنطقة، إلى أن يواجِه أزمة مالية جديدة.

          ولكن ظهرت في الأفق مؤشرات بعينها، أثارت قلقنا ودارت حولها مناقشات في اجتماع لجنة الضباط العليا الذي عقد في 23 يوليه. كانت التهديدات تحيق بالمملكة من كل حدب وصوب : من صدّام شمالاً، ومن إيران شرقاً ( توفي عدد كبير من الحجاج في حادث مأساوي خلال موسم الحج في ذلك العام، مما أعطى وسائل الإعلام الإيرانية ذريعة لشنّ هجوم علينا أكثر حدّة من ذي قبل )، ومن إسرائيل دولة العدوان في الشمال الغربي، التي بدت مصمِّمة على مهاجمة العراق مع كل ما يتبع ذلك من انعكاسات سلبية على عملية السلام في المنطقة، ومن اليمن جنوباً حيث تشتعل النزاعات الحدودية بين الحين والآخر.

          شعرت اللجنة أن من واجبها البحث عن كيفية مواجهة هذه الأخطار المحيطة بنا، عملياتياً واستراتيجياً. أخذنا في اعتبارنا أن احتمال تحقيق الصلح بين العراق وإيران، قد يؤدّي إلى اجتماع الدولتين في عدائهما لنا ولسياستنا المعتدلة في ما يخص أسعار النفط. لذا، وجدت اللجنة أن من الضروري تطوير خططنا الدفاعية ورسم إستراتيجيات قصيرة ومتوسطة المدى، لمجابهة هذه الأخطار المحدقة بالمملكة من كل جانب.

          أكّدت، آنذاك، أن صداماً أصبح يشكِّل خطراً؛ لأنه يَعتبر نفسه المنتصر في حربه مع إيران ويتطلع إلى زعامة مثل زعامة عبد الناصر، فضلاً عن غروره ووَلَعِهِ بالقتال. ليس هذا فحسب، بل لأنه كان يواجه مصاعب مالية جمّة يبحث لنفسه عن مخرج منها. كانت لديه قوات مسلحة هائلة، دون عدو تقاتله، أو هدف تحققه! لم يكن في وسعه تسريح هذه القوات، خشية تفاقم البطالة المدمِّرة والعواقب الاجتماعية الخطيرة. كان من الواضح، أنه يحتاج إلى أن يُشغل قواته في جبهة أخرى وعدو جديد.

          قبيل غزو الكويت لم يكن العراق يشكِّل، في رأيي، تهديداً مباشراً لنا. ولكني كنت أتوقع ظهوره قوة إقليمية عظمى في المنطقة في غضون ثلاث أو خمس سنوات، وعندئذ سيسبب لنا متاعب لا حصر لها. لذلك، كان علينا أن نستغل هذه الفترة الزمنية المتاحة لإعداد أنفسنا الإعداد اللازم.

          وتنفست اللجنة الصُّعداء يوم 24 يوليه، بعد يوم واحد من اجتماعنا، عندما عاد الرئيس حسني مبارك إلى الكويت قادماً من بغداد بعد زيارة قصيرة، حاملاً معه تأكيدات من صدّام أن تحركات قواته ليست سوى مناورات روتينية وأنه على الرغم من انزعاجه الشديد من تصرفات الكويتيين، لا ينوي استخدام القوة ضدهم. هذا ما نقله الرئيس مبارك إلى الملك فهد.

          ظل الملك فهد بالاشتراك مع الرئيس مبارك يعملان على نزع فتيل الأزمة. فتارة يناشدان الأطراف المعنية الالتزام بضبط النفس، وتارة أخرى يحاولان التوسط بينها من وراء الكواليس. اقترح الرئيس المصري، بعد مشاورات مع الملك فهد، أن يعقد الكويتيون والعراقيون اجتماعاً للتصالح في جدّة تحت رعاية الملك فهد. وأظن أن الرئيس حسني مبارك نصح الكويتيين، في الوقت نفسه، باتخاذ جانب اللين والمرونة. وجرت محاولة أخرى لاسترضاء العراق في اجتماع لدول "أوبك opic " عُقِد في جنيف يومي 26 و 27 من شهر يوليه، تم فيه الاتفاق على رفع سعر النفط بنسبة ثلاثة دولارات للبرميل ليصل سعره إلى 21 دولاراً، وذلك للإسهام في تخفيف الأزمة المالية الخانقة التي كان العراق يعانيها.

          وفي يوم 30 يوليه، وصل إلى بغداد الملك حسين، الذي وطد علاقاته مع العراق أثناء الحرب العراقية - الإيرانية، لمقابلة صدّام قبل أن يتوجَّه إلى الكويت لِيُطْلِعَ أسرة الصباح على ما لديه من أنباء. وحسب معلوماتي، أن الشيخ سعداً ، ولي العهد الكويتي، سأل الملك حسيناً عن رأيه في حالة صدّام النفسية.

فقال الملك حسين: "إنه ناقم عليكم أشد نِقْمة".
الشيخ سعد: "ولكن هل هناك تهديد عسكري؟".
الملك حسين: "لا، مطلقاً".
الشيخ سعد: "إذاً، لِمَ حشد قواته على حدودنا؟".

          لم يصدّق الملك حسين أن هناك حشوداً عراقية على الحدود الكويتية، حتى إن الشيخ سعداً عرض عليه مرافقته إلى الحدود ليرى بنفسه المواقع العراقية المتقدِّمة التي كانت، في ذلك الوقت، بادية للعيان.

          ( وأضيف، أن أمير الكويت شعر بالاستياء الشديد حين قرأ تصريحاً للملك حسين، بعد الغزو، نشرته صحيفة أمريكية يقول فيه، إنه حذّر الكويتيين من التهديد العسكري العراقي، لكن الأمير لم يأبه لذلك، وقال إنه يعتمد على الحماية الأمريكية ).

          ومجمل القول أن العراق في الأسبوع الذي سبق الغزو، إثر مساع مكثفة وزيارات متعددة قام بها المسئولون العرب، كان قد أعطى من التأكيدات والتعهدات ما يكفي للاعتقاد بأن النزاع العراقي - الكويتي في طريقه إلى الحل. ولم يتوقع أحد حدوث تصعيد خطير للأزمة. وعلى هذا الأساس، ذهب تشارلز فريمان charles freeman السفير الأمريكي لدى المملكة، إلى بلاده لقضاء إجازته، وكذلك غادر سفراء بريطانيا وفرنسا وروسيا واليابان لدى العراق بغداد عائدين إلى بلادهم لقضاء إجازاتهم. أمّا في أمريكا، فقد عَلِمتُ بعد ذلك أن ديك تشيني، وزير الدفاع الأمريكي، والفريق  أول كولين باول colin powell رئيس هيئة الأركان المشتركة، كانا على وشك أن يذهبا لقضاء الإجازة الصيفية.

          من جهة أخرى، فإن الاجتماع الذي دعا إليه الملك فهد وعُقد في جدّة يوم 13 يوليه بين الشيخ سعد، ولي العهد الكويتي، وعزت إبراهيم، نائب رئيس مجلس قيادة الثورة العراقي، عزز اعتقادنا بأن حكمة الملك فهد ومساعيه الحميدة لمعالجة الأمور، قد نجحتا في نزع فتيل النزاع بين العرب.

          وخلافاً لِمَا وَرَدَ في بعض الروايات، لم يكن اجتماع جدّة الذي عُقد في اليوم الأول من أغسطس، حافلاً بالمهاترات ولم يشهد أية ثورات من الغضب ولم يحدث خلاله ما يبرر الغزو الذي وقع في الليلة التالية. ومما لا شك فيه، أن عزت إبراهيم بعد الجهود الدبلوماسية العربية المكثّفة طوال الأيام السابقة، توقّع أن يبدي الكويتيون مرونة أكبر، فيوافقون على إلغاء ديون العراق وتقديم معونات جديدة إليه والتّخلي عن حقل الرميلة الشمالي. إلاّ أن الكويتيين لم يكونوا مستعدين للتنازل في أي من هذه الأمور، بل صمَّموا على مقاومة ادعاء صدّام بأن كل ممتلكات الكويت هي في الواقع مِلْكٌ للعراق. وفي كل حال، فعندما رفض الكويتيون الاستجابة للمطالب العراقية الفورية، بدا عزت إبراهيم وكأنه فَقَدَ اهتمامه بالمحادثات.

          بعد افتتاح المؤتمر بتبادل التحية الأخوية المعهودة، غادر الأمير عبدالله، ولي العهد، الاجتماع ليتيح للطرفين فرصة التحدث على انفراد. ثم حضر الطرفان إلى القصر لإبلاغ خادم الحرمين الشريفين بالنتائج. ركب الوفدان سيارة واحدة ترفع العلمين الكويتي والعراقي، ثم تناولا العشاء إلى مائدة الملك فهد. وأثناء ذلك، حافظ الطرفان على مظاهر اللطف واللباقة. جلس الشيخ سعد إلى يمين الملك فهد، بينما جلس عزت إبراهيم إلى يساره. ولم يصدر عن أيّ منهما ما ينمّ على انقطاع العلاقات بينهما، أو على وصول الاجتماع إلى طريق مسدودة. وكان قد اتُّفِق على استئناف المحادثات في بغداد بعد فترة قصيرة. لكنّ صداماً دخل الكويت بعد ذلك بساعات قليلة.

سابق بداية الصفحة تالي