مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

الفصل الثالث عشـر

القيــــادة الموازيَـــة

          عندما وصل الفريق أول نورمان شوارتزكوف إلى المملكة في 26 أغسطس عام 1990، ذهبت إلى المطار لاستقباله والترحيب به. فقد قَدِم ليتولّى قيادة القوات الأمريكية التي كانت تتدفق جواً وبحراً إلى المملكة حينذاك. كان مظهره يوحي بالثقة بالنفس والنشاط، وتنطبع على وجهه سمات الود والألفة، مما جعله يبدو قائداً حقاً. ولَمّا كنت أؤمن بالتصرّف في أسلوب متميز، فقد ترك مظهره وسلوكه في نفسي انطباعاً حسناً.

          هذا الرجل، هو الذي قُدِّر له أن يكون أقرب زميل لي طوال الأشهر السبعة التالية. ومنذ اللحظة التي التقينا فيها، أدركنا أن نجاح العلاقة بيننا سيؤثّر، إلى حدِّ بعيد، في نجاح المهمة التي أُنيطت بنا، والتي كانت تتمثل في: الدفاع عن المملكة العربية السعودية ، وإخراج صدّام من الكويت وإعادة حكومتها الشرعية، والقضاء على التهديد العراقي لدول الخليج. وكنّا معاً نُمَثِّل الجانب التنفيذي للتحالف السعودي - الأمريكي الذي صاغه زعيما البلدين الملك فهد والرئيس بوش أدرك كلانا مدى أهمية تحقيق الوئام والتعاون بيننا. وأصبح هذا الإدراك، في حد ذاته، أساساً لعمل مشترك مثمر فعال فيما بعد. إذ لو نشب خلاف بيننا، لانعكس أثره سلباً في التحالف بكل تأكيد.

          وحتى أواخر شهر أغسطس، كان خطر توجيه ضربة عراقية إلى منطقتنا الشرقية لا يزال قائماً، على الرغم من أن ذلك التهديد لم يعد بالحدّة نفسها التي كان عليها في بداية الشهر. وعندما ذهبت وشوارتزكوف في 28 أغسطس لزيارة الأمير سلطان في جدّة، قال شوارتزكوف لسموّه: "أؤكد لكم أن صدّام حسين سيتكبد أفدح الخسائر في تاريخ الحروب إن أقدم على الهجوم". ونظر إليه الأمير سلطان نظرة أسى وقال: "ليس هذا ما أريد، فليس لدينا أية رغبة في تدمير العراق ولكن إذا أصرّ صدّام على عناده واستمر عاراً على الإسلام ( وتلك هي العبارة التي استخدمها) عندئذٍ سنبذل قصارى جهدنا لإيقافه عند حدّه".

          وعندما سمعت عبارات والدي المفعمة بالإنسانية، أدركت عمق تعبيرها عن معضلتنا الأساسية. كنّا في حاجة إلى المساعدة الأمريكية لكبح جماح صدّام لكننا، في الوقت نفسه، نشعر بالأسى لاضطرارنا إلى رفع السلاح ضد دولة عربية شقيقة. كانت حيرة استعصى فهْمها على عقول حلفائنا الغربيين، فضلاً عن وسائل إعلامهم التي ظل شغلها الشاغل تصوير العراق ورئيسه وكأنهما من عالـم الشياطين، وليسا من عالـم البشر. لكن الجانب العربي في التحالف، لم يفقد الأمل حتى اللحظة الأخيرة. ولم يتوقف عن الدعاء أن يثوب صدّام إلى رشده، ويتخلى عن مخططاته العدوانية، فينقذ بلده من الدمار، ويعود ليتبوأ مركزه، مرة أخرى، ضمن نظام عربي جديد. ولكن، لسوء الحظ، لم يحدث شيء من هذا بسبب الكبرياء الجوفاء والغرور الزائف لرجلٍ واحدٍ. وأعتقد أن والدي شعر بفداحة الكارثة المقبلة، خلال ذلك الاجتماع مع القائد الأمريكي، الذي يمثل قوة الولايات المتحدة العسكرية. فالقرار بدعوة القوات الأمريكية لمساندتنا لم يكن قراراً سهلاً على الإطلاق.

          بعد مقابلتنا الأمير سلطان، عدت وشوارتزكوف إلى الرياض على متن طائرة خاصة. كنت أشعر بالإرهاق، ووددت لو أخلو إلى نفسي ساعة من الزمن أستجمع فيها أفكاري. فكلمات والدي عن صدّام كانت لا تزال ترّن في أذني "إذا استمر عاراً على الإسلام" وانشغلت عن شوارتزكوف بالتفكير العميق. ولكن كيف أشغله خلال الرحلة دون أن يظن أنني أتجاهله؟ وتصادف أن كنت أحمل معي شريطاً ( فيديو) مسجَّلاً للخطاب الذي ألقاه الرئيس حسني مبارك أخيراً عن الأزمة. واعتقاداً مني بأن شوارتزكوف قد يجد فيه ما يثير الاهتمام، طلبت من مرافقي العسكري (الركن الشخصي) العقيد أحمد لافي أن يقوم بترجمته له جملة جملة. فجلس الاثنان في مؤخرة الطائرة لأكثر من ساعة، وجهاً لوجه، يقتربان تارة ويبتعدان أخرى. وقد ارتسمت علامات الجدّ والاجتهاد عليهما، اجتهادُ العقيد أحمد لافي في الترجمة كلمة كلمة حسب التعليمات، واجتهاد  شوارتزكوف، مجاملة، في السمع والفهْم. وعندما حانت التفاتة مني إلى مؤخرة الطائرة، استطعت أن أستشفَّ من ملامح وجهه أنه لم يكن يفيض سعادة بما هو فيه.

          كنت أعرف عن شوارتزكوف الكثير حتى قبل وصوله إلى المملكة. فقد تخرج في ويست بوينت، وهي أكاديمية عسكرية لا تقلّ صرامة عن ساندهيرست ضابطاً في سلاح المشاة، وحصل على الكثير من الأوسمة. كما خدم مرتين في فيتنام وتولى قيادة إحدى الفِرق. ثـم احتل منصباً رفيعاً في وزارة الدفاع الأمريكية. ومنذ نوفمبر1988، شغل منصب قائد القيادة المركزية الأمريكية التي تمثل استعداد أمريكا للدفاع عن مصالحها في الخليج بالقوة إذا دعت الضرورة، وذلك من مقرّها في قاعدة ماكديل mac dill الجوية على مقربة من تامبا في ولاية فلوريدا.

          ومع أن شوارتزكوف يبدو مهذباً إلى أبعد الحدود، إلا أنه قد يتحول، كما قيل لي، إلى شخص عنيد وينفجر غضباً في بعض الأحيان. وكانت سمعته في تشبثه برأيه وحرصه على الحصول على ما يريد قد سبقته. وهو معروف بين رجاله باسم "الدب".

          كان لدي ما يكفي من هذه الخصال. فلست أخشى في الحق لومة لائم، ولا يستطيع أحدٌ أن يخيفني أو يرهبني. وما أسرع ما اكتشفت أننا متشابهان في نواحٍ أخرى. فكل منّا معتدّ بنفسه، حساسٌ سريع الغضب، نزّاعٌ إلى السيطرة نوعاً ما. لكننا -والحق يقال- نتصف بالعاطفة ورقة القلب أكثر مما يدل عليه مظهرنا الخارجي. أمّا من الناحية البدنية، فكلانا ممتليء الجسم وأكثر من 180 سنتيمتراً طولاً، كما أننا أعسران. أمّا مظاهر الاختلاف بيننا، فأهمها أنه كان في السادسة والخمسين من عمره، بينما كنت في الثانية والأربعين. كان هو برتبة فريق أول، وأنا برتبة فريق. كان في وسعه الاعتماد على مؤسسة عسكرية ضخمة، أمّا أنا فلم يكن لدي سوى تنظيم في طور التكوين. كانت لديه خبرة حروب كثيرة، أمّا أنا فكانت هذه خبرتي الأولى. وأدركت فوراً أن عليَّ أن أبذل جهوداً جبارة كي أرسي دعائم قيادة توازي قيادته حقاً. ولكني كنت متفوّقاً عليه في جانب ما كان له أن يعوضه وهو أني أمير وما يتبع هذا من ميزات. ولذلك قررت الاستفادة من تلك الميزات إلى أبعد الحدود.

          وخلال عملنا على التوازي، ساد الوئام غالباً علاقتي بشوارتزكوف. كنّا نعمل جنباً إلى جنب، نختلف أحياناً، ونضطر أحياناً أخرى إلى التفاوض حتى نصل إلى حل وسط. لم يكن شوارتزكوف رجلاً يسهل التعامل معه، وأنا الآخر، كنت كذلك. فما أكثر الخلافات التي حدثت بيننا من وقت إلى آخر، ولكنها لم تكن لتدوم طويلاً. وما أن عرف كل منّا الآخر حتى أصبحنا صديقين نتبادل الاحترام والتأييد. ولا ريب أننا أدركنا أهمية ذلك الوئام في علاقتنا لتنفيذ المهمة التي أُوكلت إلينا. وفي نهاية المطاف، شعرت أن كلاَّ منّا يحترم الآخر ويكنُّ له مشاعر الود ويسعد بالعمل معه. لم تَعُد علاقتنا تقف عند ضرورات العمل. وكـم تمنى شوارتزكوف لو كان نظيره شخصاً يستطيع السيطرة عليه، ولكنه عندما تعرف بي عن كثب، أدرك أن من مصلحته أن يعمل مع شريك في القيادة يتمتع بالصلاحيات الكافية لتسهيل مهمته، حتى يؤدّي عمله على خير وجه. كان نجاح مهمته رهناً بقوة المملكة وقدرتها على تقديم الإسناد الضروري، وهنا كان يَكْمن دوري.

          ومع أني أدرك تماماً، بطبيعة الحال، احتمال وجود اختلافات كبيرة في تسجيل كّلٍّ مِنّا لبعض الأحداث والوقائع التي وردت في هذا الكتاب، إلاّ أن هدفي هو أن أضع عملية التسجيل في نصابها الصحيح كما شاهدتها وعايشتها.

          فبادئ ذي بدء، ومنذ أول يوم التقيت فيه شوارتزكوف، اقترحت عليه في أسلوب لبق أن يتصل ضباط أركانه بضباط أركاني لترتيب اجتماعاتنا المقبِلة. وفي الوقت نفسه، أصدرت تعليماتي إلى المرافق العسكري بأن تتم جميع الاجتماعات مع شوارتزكوف في مكتبي دوماً. فبإصراري على مجيئه إلى مكتبي، كنت أرسل رسالة تعني توازي قيادتينا.

          في ذلك الوقت، جاء لزيارتي في مكتبي أخي بندر، سفير خادم الحرمين الشريفين لدى واشنطن الذي كان ولا يزال يقوم بدور بارز في إدارة العلاقات السعودية - الأمريكية. وبعد أن ناقشنا معاً تطورات الأزمة وعلاقاتنا بالولايات المتحدة، قال لي: "خالد، لِمَ لا تعقد اجتماعاتك مع شوارتزكوف مرّة في مكتبه ومرّة في مكتبك بالتبادل؟". فأجبته فوراً: "مستحيل! يجب أن تُعقد جميع الاجتماعات في مكتبي. وأرجوك ألاّ تتدخل".

          حاول بندر بأسلوبه الدبلوماسي أن يساعد على تطوير العلاقة بيننا. لكني كنت أتساءل إن كان الاقتراح من بندرٍ نفسه، أم أن الأمريكيين طلبوا منه التوسط في الأمر! لقد كنت، في الحقيقة، سعيداً لوجود أخٍ لي في ذلك المنصب الحساس. وأدركت أنه تفهم موقفي وأدرك ما كان يشغل بالي. فقد عشنا معاً تجارب كثيرة قرَّبت بيننا، منها مثلاً أننا درَسنا معاً في بريطانيا، درَس هو الطيران في كرانويل cranwell ، ودرَست أنا في ساندهيرست.

          هكذا سارت الأمور بيني وبين شوارتزكوف على هذا المنوال. فطوال فترة الأزمة، كان يحضر إلى مكتبي الساعة الرابعة من عصر كل يوم، فنجتمع لمدة تتراوح بين 45 دقيقة وساعة لمراجعة استعداداتنا للحرب، ووضـع الحلول المناسبة، في حينها، للمشاكل التي تعترضنا. وأثناء حديثنا، كنّا غالباً نتناول الكعك السعودي (الكليجه) الذي كانت تعده لي عمتي الأميرة نوف بنت عبد العزيز بلطفها المعهود، ونحتسي الكوكاكولا الخالية من السكر، وهي إشارة صغيرة إلى أن كلينا يعاني من زيادة في الوزن. وإذا واجهتنا مشكلة بارزة اجتمعنا ثانية نحو الحادية عشرة ليلاً لساعة أو ساعتين للمضيِّ في مناقشتها. كنّا نحتسي قهوة الكابوتشينو الشهيرة، كما كان يحلو له أن يدعوها، وهى تتميز بشدة تركيزها وقدرتها على طرد النعاس.

سابق بداية الصفحة تالي