مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

القيادة الموازيَة (تابع)

          ولعل من المناسب، في هذا المقام، أن أتطرق إلى الحديث عن فكرة "القيادة الموازية". فهذا المصطلح لم يُقصد به، ولا يمكن أن يقصد به، أن قيادتي وقيادة شوارتزكوف كانتا متساويتين، إذ لم يكن هناك تكافؤ في القوات، أو الموارد، أو المعدات المتيسرة لكلٍّ منّا. ونظراً إلي حجم القوات الأمريكية الهائل في التحالف، لم يكن ثمة شك في أن الولايات المتحدة ستكون لها اليد الطولي في اتخاذ القرارات القيادية الجوهرية. فقوات شوارتزكوف البرية تفوق قواتي بثلاثة أمثالها. أمّا في الجو، فكانت النسبة 5 : 1 على الأقل. وكذلك الأمر في البحر، إذ كانت قوات الولايات المتحدة تفوق ما سواها بكثير. هذه الحقائق لم تكن ملائمة قط لاقتراح تشكيل قيادة موازية، وهي القيادة التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ العسكري الأمريكي. ففي الحرب العالمية الثانية مثلاً، أو في كوريا أوفيتنام، كان هناك دائماً قائد أمريكي أعلى. وعلى الرغم من أن حلفاء أمريكا كان لهم، بالمثل، قادة عسكريون كبارٌ ومتميزون، لكنهم لم يصلوا أبداً إلى مكانة القائد الأعلى الأمريكي. إلاّ أن الوضع كان مختلفاً تماماً في حرب الخليج.

          ففي الأسابيع الأولى، حينما كانت مسؤوليات كلٍّ منّا الخاصة غير محددة بوضوح، ظهرت تكهنات كثيرة في الصحافة العالمية حول مسألة القيادة والسيطرة، كـانت وسائل الإعلام تريد معرفة من الذي يصدر الأوامر. ومن الواضح، أن فكرة القيادة الموازية استغرق فهْمها بعض الوقت. ولا غرابة في ذلك، لأن الفكرة نفسها، قبل كل شيء، كانت فريدة في نوعها. فلم تكن القوات الأمريكية لتقبل أن تعمل تحت القيادة السعودية. وبالمثل، لم تكن القوات السعودية ولا العربية لتقبلا العمل تحت القيادة الأمريكية. لذلك، كان المطلوب صيغة جديدة للقيادة. ومن هنا، جاءت فكرة القيادة الموازية لتذلل بمرونتها هذه العقبات. وعندما سألتني جورجي آن جاير georgie anne geyer من يونيفرسال برس سنديكيت universal press syndicate عن موضوع القيادة في أوائل أكتوبر، أجبتُها، على ما أذكر، قائلاً: "الرجلان الوحيدان اللذان لا يشغلهما هذا الموضوع، هما الفريق أول شوارتزكوف وأنا".

          وفي إصراري على مبدأ القيادة الموازية، لم أكن أسعى إلى التنافس مع شوارتزكوف أو التقليل من مكانته؛ لأنني كنت على يقين أن الولايات المتحدة ستتولى بنفسها قيادة قواتها التي ضمت 550 ألفاً من القوات المسلحة الأمريكية، رجالاً ونساءً. فقد طغى الوجود العسكري الأمريكي الهائل على القوات السعودية والبريطانية والفرنسية وعلى كل القوات الأخرى في التحالف. ومن الطبيعي أن يكون الدور الأساسي والأول في تخطيط الحرب وإدارتها للفريق أول شوارتزكوف، في الخليج، وللفريق أول كولين باول، في واشنطن. لكني أردتُ أن يدرك شوارتزكوف ضرورة أن نؤكد للرأي العام السعودي والعربي أننا نسيطر على القوات الغربية التي وصلت إلى قلب العالم الإسلامي. ففي غياب سيطرة المملكة يبدو الأمر كأنه غزو مقنّع واحتلال غير مباشر، وانتهاك لقيمنا الإسلامية التي نعتز بها أكثر من أي شيء آخر. ومن هنا، كان ينبغي عليَّ أن أبيِّن للجميع أنني جنباً إلى جنب وعلى قدم المساواة، مع القائد الأمريكي في قيادة موازية.

          حدد تنظيم " القيادة الموازية " العلاقة بيني، قائداً للقوات المشتركة ومسرح العمليات، وبين شوارتزكـوف، قائداً للقوات الأمريكية. كان علينا أن نعمل معاً يداً بيد، وبشكل يومي لكي تكون مشاركتنا مثمرة وفَعّالة. غير أن صلاحياتي كانت تقتصر على نطاق مسؤولية قيادة القوات المشتركة داخل المملكة فقط، إذ لم تكن لي أية علاقة بمسؤوليات القيادة المركزية الأوسع نطاقاً، سواء أفي المنطقة كانت أم داخل العراق أثناء الحرب نفسها.

          كنت حلقة الوصل بين سلطات القيادة الوطنية السعودية وبين القوات الشقيقة والصديقة الأخرى، بما في ذلك القوات الأمريكية. وكان لزاماً عليَّ، تبعاً لذلك، أن أولي اهتماماً خاصاً لأربعة مجالات من المسؤولية.

          كانت مهمتي الرئيسية الأولى ذات طبيعة عسكرية. ففي الأسابيع الأولى من شهر أغسطس 1990، كانت قواتي هي القوات الوحيدة في الميدان التي تواجِه الحشود العراقية، إذ كانت القوات الأمريكية منهمكة في النزول من سُفنها وطائراتها والانتقال إلى مواقع دفاعية تبعد نحو 100 كيلومتر إلى الخلف، لتشكل ما اعتبرناه الحزام الدفاعي الثاني. في تلك المرحلة، كان الإسناد الجوي القريب، هو المساعدة العسكرية الوحيدة التي كنّا نتوقعها من الأمريكيين.

          وقبل وصول القيادة المركزية الأمريكية، كنت أُدرك تماماً خطر شن هجوم عراقي وشيك علينا، وأُدرك أيضاً دوري قائداً عسكرياً مسئوولاً عن التصدي لذلك الهجوم. لذلك حشدنا كل ما لدينا على الجبهة في مواجَهة العراقيين، وكان علينا أن نصمد في هذا الوضع. ففي الخطط الدفاعية المختلفة التي عُدّلت ونُقّحت مع مرور الوقت، كانت القوات السعودية دائماً في الخط الأول تساندها القوات المصرية والسورية والقوات الأخرى، بينما تقف الوحدات الأمريكية بعيداً إلى الخلف.

          حين واجهْنا الخطر الداهم من صدّام خلال الأسابيع الثلاثة الأولى من شهر أغسطس، لم يكن شوارتزكوف قد وصل إلى المملكة بعد، إذ إنه لم يصل إليها إلاّ نهاية أغسطس. وبعد ذلك بأسبوعين، أي في منتصف شهر سبتمبر، أخذ الخطر العراقي ينحسر سريعاً، كما اتضح لنا من طريقة نشْر صدّام قواته. كان شكل احتلال قواته المواقع في مسرح العمليات الكويتي وطبيعته دفاعياً، وليس هجومياً. كان انتحاراً من جانبه، في كل المقاييس العسكرية، وهو يحفر الخنادق ويحتل المواقع الدفاعية.

          خلال المرحلة الأولى من الأزمة، وضعنا خططنا الدفاعية وفق المتيسر لدينا من القوات السعودية التي تم تعزيزها بعد فترة قصيرة بوحدات مصرية وسورية ومغربية. ولَمّا بدأت القوات الأمريكية والبريطانية والقوات الصديقة الأخرى الوصول إلى المملكة، وضعنا معاً خطة "درع الصحراء". وتم الاتفاق في صورة مشتركة على فكرة العمليات، واستخدام القوات، ومناطق المسؤولية للوحدات والتشكيلات الشقيقة والصديقة، وقواعد الاشتباك، وبرامج التدريب المشترك، إضافة إلى أمور كثيرة أخرى. وفي نهاية المطاف، كان عليَّ أن أتولى قيادة وحدات وتشكيلات من 25 دولة من الدول التي قَدِمَت لمساندتنا، بينما تولى شوارتزكوف قيادة قوات من 12 دولة. ومن الناحية العسكرية، بلغ تعداد الوحدات التابعة لقيادتي 200 ألف رجل تقريباً، ومع أن هذا العدد لا يقارَن بما كان تحت قيادة شوارتزكوف، إلاّ أنه لا يعني أن قيادتها كانت أكثر سهولة. كانت لدي صلاحيات نشْر هذه القوات وتخصيص المهام لها، واتخاذ جميع القرارات العسكرية الأخرى اللازمة ضمن نطاق الخطط العسكرية المتفَق عليها بيننا، في شأن عملية درع الصحراء أولاً، ثم عملية عاصفة الصحراء، بعد ذلك.

          وعندما حان وقت التخطيط لعملية عاصفة الصحراء، كان اهتمامنا منصّباً أساساً على تحرير دولة الكويت هدفنا الرئيسي من الحرب. لكن هذا لم يَحُلْ بيننا وبين مناقشة خطة الحرب الشاملة وتعديلها. إذ أدخلنا عليها بعض التعديلات لضمان ملاءمتها أهدافنا وإمكاناتنا. وكان على مجموعة التخطيط المشتركة أن تضع نصب أعينها احتمال انسحاب صدّام فجأة من الكويت انسحاباً غير مشروط قبل بدء الحرب. قمنا بدور رئيسي في التخطيط لتأمين المواقع والمنشآت الحيوية في الكويت وحمايتها، مثل المطارات ومعامل تكرير النفط ومحطات تحلية المياه، قبل تسليمها إلى السلطات الكويتية، وكذلك تحديد التدابير الأمنية الداخلية التي ينبغي اتخاذها.

          وإذا كانت مسؤوليتي الأولى ذات صفة عسكرية تكتيكية، فإن مجال مسؤوليتي الثانية كان ينصبّ على الإمداد والتموين، إذ يلزم توفير الاحتياجات لقوات التحالف جميعها، بدءاً من تقديم شطائر الهمبرجر الساخنة إلى القوات الصديقة فور نزولها من الطائرات، إلى طواف أرجاء العالم بحثاً عن 10 آلاف شاحنة ثقيلة، وانتهاءً بتجهيز بعض الوحدات الصغيرة الحجم التي وصلت إلى المملكة من بلادها، وليس لديها أكثر من الملابس التي كانت ترتديها.

          كان تأمين الإمداد والتموين لقوات التحالف ولقواتنا من أكبر مشاغلي خلال الأشهر الأولى من الأزمة. هذا المجال الحيوي الذي قمنا فيه، بصفتنا الدولة المضيفة، بدور رئيسي وبارز ظل هَمّاً يشغل قيادتي، قيادة القوات المشتركة، إلى أبعد الحدود. وخشية توجيه ضربات وقائية عراقية إلى موانئنا ومطاراتنا في الجبيل والظهران، رَكَّز شوارتزكوف على أن تكون الأسبقية الأولى في الوصول إلى المملكة للوحدات المقاتلة مثل وحدات من الفِرقة 82 المحمولة جواً والفِرقة 24 مشاة آلية، على أن تصل وحدات إسناد هذه القوات، كأسبقية ثانية. كان ذلك يعني أن علينا، منذ اللحظة الأولى لوصول تلك القوات، تزويدها بالطعام والمياه وأماكن الإيواء وخدمات أخرى كثيرة. إن قرار تحديد أسبقيات نشْر القوات ليس قراراً سهلاً، إذ تؤثّر فيه اعتبارات عدة واحتمالات كثيرة.

          كانت مهمتي في هذا المجال، إيجاد الحلول للمشاكل فور حدوثها، سواء بالتدخل لدى السلطات المختصة من أجل الإسراع في إصدار القرارات المناسبة أو بتَخَطِّي العقبات البيروقراطية أو بإصدار التعليمات بنفسي. ولكي أتمكن من الاضطلاع بهذا العبء الجسيم، طلبت منحي صلاحيات واسعة، وحصلت عليها بالفعل. وكان لتعاون عدد من الوزارات والأجهزة الحكومية أثره الكبير في تيسير مهمتي. استغرق الأمر، بالطبع، بعض الوقت لأقنع كل مسؤول أنني أنوي ممارسة كل الصلاحيات التي فُوّضَتْ إليّ. وما أن أدرك الجميع أهمية ذلك حتى أبدوا تعاونهم الكامل واستجابتهم الفورية. وحينئذ فقط، كنت قادراً على إنجاز الكثير من المهام عقب محادثة المسؤول هاتفياً، وهو ما حقق الفائدة والارتياح إلينا والى شركائنا في التحالف. وسأذكر، في فصل لاحق، سرداً موجزاً لبعض مصاعب الإمداد والتموين التي كنّا نواجهها.

          أما مسؤوليتي الثالثة، فكانت ضمان الانسجام السياسي بين أعضاء التحالف، نظراً إلى ما لها من انعكاسات على العلاقات بين الوحدات والتشكيلات لمختلف الدول التي اجتمعت في المملكة. وزيادة في الإيضاح، فإن عملي لم يكن بناء الصرح السياسي للتحالف، لأن هذا العمل أُنجز في أعلى مستوى من قِبَل الملك فهد والرئيس بوش وزعماء الدول الأخرى المشارِكة في التحالف، بل كان واجبي أن أنفّذ، على الطبيعة، كل القرارات السياسية التي اتخذها هؤلاء الزعماء. ونظراً إلى العدد الكبير من الدول التي شاركت في التحالف، فإن الأمور السياسية كانت أكثر أهمية في هذه الحرب منها في أي حرب أخرى منذ الحرب العالمية الثانية. وهذا ينطبق، بصفة خاصة، على الدول العربية المشاركة في التحالف، وعلى فرنسا كما سنرى فيما بعد.

          كانت مسؤوليتي الرابعة والأخيرة تتلخص في حماية عقيدتنا وسيادتنا وثقافتنا وتقاليدنا من أن يُستهان بها، أو تنتهك حُرمتها من جانب القوات التي أتت لمساندتنا. كنت مسؤولاً أمام قادتنا وأمام المملكة كلها، أن تتم الأمور في النهاية بالصورة الصحيحة وبالأسلوب الذي يرضينا. لذلك، كان ينبغي عليَّ التأكد من أن شوارتزكوف يتفهم الظروف والقيود التي أعمل في إطارها. ولو لم أكن يقظاً تماماً لِما يفعله هو وجنوده، ولو لم أضع حدّاً لِما قد يحدث من تجاوزات، أولاً بأول، لأدّت الضغوط الداخلية إلى انهيار العلاقة بين المملكة والولايات المتحدة، وبين المملكة وكل من بريطانيا وفرنسا. كانت لدىّ خبرة كافية بالغرب وبالجيوش الغربية، وهذا ما جعلني أُقدّر حاجاتها وأفهم أسلوبها في الحياة. ولكن في الوقت نفسه، كان من واجبي أن أقيم الحدود التي تفرضها عقيدتنا وتقاليدنا. كانت تلك الحدود بمثابة "خطوط حمراء" لا يمكن تجاوزها في أي حال من الأحوال، للحفاظ على وحدة البلاد وسلامة أراضيها.

سابق بداية الصفحة تالي