مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

إدارة التحالـــف - القسم الأول (تابع)

          أوفد الرئيس حافظ الأسد بعد غزو العراق الكويت بوقت قصير، العماد علي أصلان نائب رئيس الأركان السوري، ليناقش معي ما يمكن أن تقدمه سوريا لتعزيز دفاعاتنا ( رتبة العماد في سوريا هي رتبة بين اللواء والفريق ). كانت تلك هي المرة الأولى التي ألتقي فيها ضابطاً سورياً كبيراً. وقد وجدت العماد علي أصلان يتمتع باللياقة ودماثة الخلق، ويتحدث بصوت هادئ وثقة بالنفس.

          قلت للعماد أصلان، محاولاً تخفيف الجو الرسمي المحيط بنا: "إنني أحترم الرئيس الأسد وأقدّره، لأنه كان على صواب في موقفه من صدّام بينما أخطأنا نحن التقدير. وكم كان حكيماً لعدم حضوره مؤتمر قمة بغداد!". وكنت أقصد ذلك المؤتمر الذي عقد في شهر مايو 1990، وأسبغ على صدّام الهيبة التي كان يريدها، وربما شجعه ذلك على غزو الكويت

          كنت صادقاً في إطرائي الرئيس الأسد. فالرئيس السوري يعتبر، حقاً، من أعمق زعماء المنطقة رؤية سياسية. وأردت أن أوضح للعماد أصلان أيضاً أننا في المملكة نقدّر الموقف السوري، وأن في استطاعته الثقة بأن قيادتي للقوات السورية لن تسبب أي حرج سياسي لدمشق.

          شعرت، بوجه عام، أن مسؤوليتي قائداً للقوات المشتركة، تملي عليَّ أن أحافظ على مصالح كل دولة وضعت قواتها تحت قيادتي. وكنت أدرك أنني مدين بذلك الشرف لزعماء تلك الدول. فموافقتهم على وضع قواتهم تحت إمرة قائد سعودي، حتّمت عليَّ أن أكون أهلاً لثقتهم على أقل تقدير، سواء أَكنت متفقاً مع سياستهم أم غير متفق.

          يُعرف عن الرئيس الأسد بغضه الشديد لصدام حسين، أكثر من بغضنا له بكثير. وكما أيقنت أيضاً أنه لم يكن من السهل على سوريا بصفتها حاملة راية القومية العربية، أن تضم قواتها إلى قوات الولايات المتحدة في شن حرب على دولة عربية أخرى، فضلاً عن أن الصراع الطويل، السياسي والعسكري، بين سوريا وإسرائيل جعل السوريين ينظرون بعين الشك والريبة إلى نوايا الولايات المتحدة حليفة إسرائيل فعلى الرغم من التحسن الذي طرأ على العلاقات السورية - الأمريكية أخيراً، إلاّ أن قدراً من تراكمات المرارة والمشاعر المعادية ما تزال باقية من الماضي. فشوارتزكوف كان ينظر إلى السوريين بعين الحذر، ولم يتصل بهم طوال الأزمة. كما حرص السوريون، بالمثل، على الابتعاد عن العسكريين الأمريكيين خشية أن يقوموا بنقل شيء مما يعرفونه عن السوريين إلى إسرائيل ولهذه الأسباب مجتمعة، توقعت ظهور بعض المشاكل بين القوات السورية والأمريكية في المملكة.

          وفي ضوء هذه المعرفة، كنت مهيأً لِمَا سيقوله العماد أصلان، الذي أوضح بأسلوب لبق ومهذب أن القوات السورية تفضل ألاّ تعمل بالقرب من القوات الأمريكية. فأكدت له أننا سَنُبقي علاقتنا بالولايات المتحدة بعيدة تماماً عن كل ما يتصل بالشؤون السورية، وأن تنظيم القوات السورية وتخطيطها وتكتيكها وتدريبها واحتياجاتها ستظل موضع الكتمان والسرِّية داخل القيادة السعودية.

          سألت العماد أصلان: "ماذا لو التقى جنود سوريون جنوداً أمريكيين مصادفة؟". فأجاب: "المهم تجنب الحرج لكل منهما". وعلى كل حال، فقد كانت سوريا حريصة على أداء دورها في الدفاع عن المملكة، وأذكر عبارة العماد أصلان: "لتساعد على القضاء على خطر صدام"، ولكنها، تنفيذاً لهذا الدور، لا تقبل أبداً أن تعمل قواتها تحت إمرة القيادة الأمريكية. فالقوات السورية تقبل العمل تحت إمرة قائد سعودي ولا أحد سواه. وهذا ما كنت أتمناه.

          وصلت وحدة من القوات الخاصة السورية إلى المملكة بعد فترة وجيزة. ثم تبعتها، بأسابيع عدة، الفِرقة التاسعة المدرعة، بعد أن استكملنا لها تجهيز السفن، وشاحنات النقل، وأماكن الإيواء، والطعام وما شابه ذلك من الاحتياجات الأخرى. وأبحرت السفن التي تحمل القوات السورية تحت الحماية الجوية الأمريكية. ولفت نظري قدرة دولتين لم تكونا على وفاق من قبل، على التعاون بشكل فعال لمجابهة خطر مشترك. وأذكر أنني توجَّهت إلى ميناء ينبع، في الرابع من نوفمبر، لاستقبال طلائع القوات السورية وهي تغادر الباخرة السعودية الضخمة "سعودي قصيم"، فأصبت بخيبة أمل عندما وجدت أن الدبابات التي جاءوا بها كانت من نوع t-62 القديمة، وليست t-72 كما تمنيت. ولكني كنت أدرك أن لدى السوريين التزامات دفاعية أخرى في الجولان وفي لبنان وأنهم إلى جانب مجابهة إسرائيل كان عليهم حشد فِرقتين على الحدود العراقية لمواجهة صدّام إذا حاول القيام بمغامرة ضدهم. وفي الحقيقة، كنت سأشعر بالرضا حتى لو جاءوا بدباباتهم الأكثر قِدَماً t -34، إذ لم أكن في وضع يجعلني أثقل على السوريين، فوجودهم معنا في حد ذاته كان أمراً في غاية الأهمية.

          وضعتُ الفِرقة المدرعة السورية، في بداية الأمر، غرب مشاة البحرية الأمريكية ( أي إلى ميسرتهم ) التي كانت متمركزة بين قطاعيْ مسؤوليتي الشرقي والشمالي. وما أسرع ما اكتشفت أن الأمريكيين لا يحبذون هذا الوضع. فقد كانت الدبابات السورية السوفيتية الصنع تماثل ما لدى العراق نوعاً وتشكيلاً. وخشيت أن يتفاقم أي حادث قد يقع بين الأمريكيين والسوريين، مهْما كان صغيراً، فيصبح مشكلة كبيرة. لذلك استبدلت فِرقة مصرية بالفِرقة السورية، فارتاح السوريون إلى هذا القرار، كما شعر الأمريكيون براحة أكبر لمجاورة القوات المصرية ميسرتهم. فقد أجروا تدريبات مشتركة معاً من قبل. وأثناء التخطيط لعملية عاصفة الصحراء، اتضح لي أنه بتحرك الفيلق السابع الأمريكي غرباً، ستصبح الفِرقة السورية إلى ميمنته، وتتكرر المشكلة نفسها التي حدثت في درع الصحراء مع مشاة البحرية. لهذا السبب ولأسباب أخرى عملياتية وسياسية، نقلتُ القوات المصرية إلى قطاع هجومها في اتجاه الغرب ( شرق الفيلق السابع )، وسحبت الفِرقة السورية إلى الخلف لتشكّل احتياطي القوات المشتركة في المنطقة الشمالية.

          كانت إحدى مسؤولياتي، التأكد من عدم حدوث منازعات خطيرة بين القوات المتحالفة في الميدان، لعلمي أن صدّام حسين يُعَوَّل كثيراً على تفكـك التحالف وانهياره. ولظنه أنه لو تمكن من زرع بذور الشقاق بين دول التحالف، فلا بد عندئذٍ من ظهور المشاكل بينها، مشاكل بين سوريا والولايات المتحدة، أو بين الدول العربية التي تؤيد الحرب وتلك التي تعارضها، أو مشاكل دينية بسبب تأثير وجود القوات الأجنبية في المجتمع السعودي، أو أعمال عنف ينفّذها الجنود العرب أو المسلمون بتحريض من العناصر المتطرفة. كان صدّام يأمل، دون شك، من أجل إثارة المشاعر التهاباً أن يطلق جنود قوات التحالف النار علي ضباطهم. وفي محاولة لصب الزيت على النار، اختلق العراقيون عدداً من الحوادث تناقلتها وسائل الإعلام في الأردن وبعض دول شمال أفريقيا. منها، مثلاً، أن ستة عشر مصرياً وأربعة أمريكيين قتلوا في صدام وقع بين الجانبين. ولم تكن كل هذه القصص سوى دعايات معادية، الهدف منها تضليل الرأي العام. وكنت على يقين من أنه لو أُطلقت رصاصة واحدة بسبب نزاعٍ ما، لتسبّبت لنا بأزمة خطيرة.

          تركز معظم دعايات صدّام ضد التحالف على الناحية الدينية. ولم يكن ذلك مستغرباً منه، فهو رجل جُبل على المكر والخداع. إذ كيف لزعيم حزب علماني أن يرتدي عباءة الإسلام؟! فبعد غزوه الكويت وزعت أجهزة الإعلام العراقية صورته وهو يؤدّي الصلاة في الكويت ويظهر صدّام في الصورة يصلي بمفرده ويحيط به حراسه المسلحون! وكشف تحليل الصورة وتحليل ظلال الأشخاص الظاهرين فيها، أنه لم يكن حتى متوجهاً نحو القِبْلة! ذلكم هو صدّام حسين ، المسلم المثالي!

          كان من دواعي سروري، ما لمسته من القائد السوري اللواء الركن علي حبيب من حماسة وانضباط واستعداد للتعاون بلا تردد أو تحفظ، فأصبح بعد فترة وجيزة من أقرب قادة القوات إلى نفسي ( تمت ترقيته إلى منصب قائد الوحدات الخاصة السورية، المغاوير، في شهر أغسطس 1994 ).

          ادَّعي بعض المراقبين أن القوات السورية لم تشترك في القتال، بيد أن هذا الادعاء عارٍ تماماً من الصحة. فقد كنت أعلم، منذ البداية، أن السوريين يتحفظون في شأن مهاجمة العراق مما جعلني أخصص لهم منطقة تجمّع ضمن النطاق الدفاعي للقوات المشتركة في المنطقة الشمالية، على بعد 50 كيلومتراً من خط المواجهة، حيث برزت أهميتهم الكبرى في الدفاع. وكانت قواتهم على درجة عالية من التدريب والكفاءة، ولديها أوامر صريحة بالقتال حال تعرّضها للهجوم. آثرت أن أخصص لها مهمة العمل كاحتياطي للقوات المشتركة في المنطقة الشمالية، خشية ألاّ يصل إليها الأمر بالمشاركة في الهجوم قبل الحرب البرية بوقت كافٍ. لم أكن أرغب في أن أسبب لها حرجاً بجعل هذا الأمر مسألة سياسية. فإذا صدرت إليها الأوامر بالاشتراك في الهجوم فلن تتغير مهمتها، وستتقدم خلف القوات لتنفيذ مهامها الهجومية. وإذا لم يسمح لها بالاشتراك، أخصص لها مهمة احتلال المواقع الدفاعية التي ستُخلى بتقدم القوات المهاجمة. وعلى أي حال، فقد وصل إليها الأمر في الوقت المناسب، وشارك السوريون في تحرير دولة الكويت وكان وضع القوات السورية في الاحتياط، أثناء العملية الدفاعية، عملاً عسكرياً ذا أهمية تكتيكية فائقة، إذ كانت مهمتها تعزيز قوات النسق الأول إذا دعت الضرورة، وشن هجوم مضاد إذا نجح العراقيون في اختراق دفاعاتنا، وحماية أجناب ومؤخرة المواقع الدفاعية، وحماية الثغرات ( الفواصل ) بين الوحدات الأمامية. وكان السوريون على استعداد لأداء تلك المهام.

          إضافة إلى ما سبق، وقبل اندلاع الحرب البرية، بذلتُ محاولات عدة، لأسباب سياسية وعسكرية، لتحقيق تكامل القوات المختلفة تحت قيادتي. فعلى سبيل المثال، ألحقتُ كتيبة من المظليين السعوديين على القوات الخاصة المصرية، قبل بدء الحملة الجوية بأسبوعين. وظلت تلك الكتيبة هناك إلى أن تم تحرير الكويت وقد كلّفتها بعد ذلك بمهام معينة في معسكر رفحا للاجئين العراقيين. فعلت ذلك لأني كنت أدرك أن القوات الخاصة المصرية، المدرَّبة تدريباً أمريكياً، لديها من الخبرة ما يمكن أن يَفيد منه جنودنا. كما ألحقتُ وحدات من المدفعية السعودية على القيادة السورية في المنطقة الشمالية. ودفعت وحدات سورية من المهندسين العسكريين إلى الأمام تحت قيادة سعودية. وحين اندلعت الحرب، شكل أولئك طليعة الوحدات التي اقتحمت الدفاعات العراقية. ولهذا السبب، عندما يدّعي بعض المراقبين أن السوريين لم يشتركوا في القتال، أجيبهم بأن هذا الادعاء محض افتراء.

سابق بداية الصفحة تالي