مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

إدارة التحالـــف - القسم الثاني (تابع)

          ومن جملة المصاعب التي استحوذت على تفكيري خلال الأزمة، مشكلة الوحدات الصغيرة الحجم لبعض الدول المشاركة في التحالف. وهي وحدات لا يتجاوز عدد أفرادها بضع مئات. فما المهمة التي يمكنني إسنادها إلى تلك الوحدات؟ وكيف يتم نشْرها بطريقة فعالة؟ هداني تفكيري إلى فكرة "النقاط الحصينة". فلدينا عدد كبير من الأماكن الحيوية التي تحتاج إلى حماية، مثل المنشآت النفطية في السفانية على مقربة من الحدود الكويتية، وخزانات النفط الرئيسية في رأس تنورة. وهذان مثالان من بين الكثير من الأمثلة الأخرى للمواقع التي لا تقلّ أهمية عنهما.

          واستقر رأيي على الاستفادة من هذه الوحدات الصغيرة الحجم لإقامة نقاط دفاعية حصينة حول تلك الأماكن الحيوية. ومنحتني هذه الفكرة مرونة أكبر، لأنها أغنتني عن بعثرة وحدات رئيسية أو تفتيتها. وتم تجهيز تلك النقاط الدفاعية الحصينة لتكون مكتفية ذاتياً وتتمكن بتحصيناتها القوية من التمسك بمواقعها، وتهديد جنب أي قوات عراقية تتقدم جنوباً. وكان يتعين نشْر كل وحدة طبقاً لقدراتها القتالية، كي تستطيع تنفيذ المهمة المُوكلة إليها بكفاءة. لم أشأ، عند تقييم كل وحدة وتخصيص المهام لها، أن أغير من أسلوب استخدامها القتالي، أو أضعها في موقف يؤدّي فيه اختلاف اللغات إلى صعوبة الاتصال والتفاهم مع الوحدات المجاورة. أردت أن يشعر الجميع بالارتياح إلى أنهم موضع ترحيب، وقبل كل شيء، أردت تجنُّب حدوث مصادمات بين القوات المختلفة. وحفاظاً على تماسك التحالف، واحتراماً للحساسيات السياسية لدى كل عضو فيه، بذلت ما في وسعي لتحقيق الإنصاف للجميع، وحرصت على تحية كل قائد بنفسي، سواء أكان برتبة لواء أم رائد. فكل قادة قوات الدول المشاركـة في التحالف يستحقون معاملة متساوية، مهْما كانت رتبهم العسكرية. ( ولكن يجب عليَّ أن أعترف أنني أوْلَيتُ القوات السورية والمصرية اهتماماً خاصاً، لإدراكي أن المحور "السعودي - المصري - السوري" حيوي لدوام استقرار التحالف واستقرار المنطقة كلها ).

          أدى إصراري على إقامة النقاط الدفاعية الحصينة إلى خلاف بسيط في الرأي بيني وبين شوارتزكوف. وأذكر أنه خلال اجتماعنا في 13 سبتمبر، ونحن نستعرض خططنا الدفاعية مع هيئة أركاننا، ظهر اختلاف وجهات نظرنا. ففي بادئ الأمر، وعندما لم يكن لدى شوارتزكوف سوى القليل من القوات، اقتصر اهتمامه على الدفاع عن الأماكن المحيطة بالجبيل والظهران، وموانئ المنطقة الشرقية ومطاراتها. فتلك المنطقة كانت على جانب كبير من الأهمية لحشد القوات الأمريكية ونشْرها. ولكنه، عدا ذلك، كان يفضِّل دفاعاً متحركاً قادراً على الاشتباك مع أية قوات يدفعها العراقيون تجاهنا. ولم يحبِّذ شوارتزكوف فكرة "النقاط الدفاعية الحصينة المتقدمة"، خشية أن تتمكن القوات العراقية المتقدِّمة من اجتياحها أو الالتفاف حولها. لذلك، أراد استبدال الوقت بالمكان. أمّا أنا، فكان عليَّ أن أنظر إلى الوضع من زاوية سياسية وعسكرية في الوقت نفسه. فبادئ ذي بدء، كـما أسلفت، عندما أدركت أن مدينة الخفجي الحدودية تقع في مرمى المدفعية العراقية، وأنه لا يمكن الدفاع عنها، سحبت قواتي إلى الخلف مسافة بضع عشرات من الكيلومترات لكي أنشئ "منطقة قتل". وعزمت على إقامة خط دفاعي آخر شمالي ميناء رأس مشعاب. ومن الجدير بالذكر، أن المنطقتين الأماميتين ( الشرقية والشمالية ) بمحاذاة الحـدود كانتا، آنذاك، ضمن نطاق مسؤوليتي، وليستا ضـمن نطاق مسئوولية شوارتزكوف. فالقوات الأمريكية كانت لا تزال بعيدة في الخلف، ولم تكن مستعدة للقتال بعد.

          كانت إستراتيجيتي الدفاعية، في حال وقوع هجوم عراقي علي المملكة، تتلخص في ما يأتي:
أولاً، استدراج القوات العراقية إلي "منطقة قتل" وتعريض خطوط إمدادها للقصف الجوي.
ثانياً، وفي حالة هجوم العراقيين بقوات متفوقة، وعند الضرورة القصوى، يتم الارتداد إلي الخلف وفي اتجاه الشرق مع تنفيذ عمليات الإعاقة ( عمليات قتالية تعطيلية ) وتعزيز النقاط الدفاعية الحصينة الساحلية. وسيكون لهذا الحزام الساحلي فوائد عدة بينها، علي سبيل المثال، الاستفادة من الإسناد النيراني من سفن قوات التحالف الموجودة في الخليج، فضلاً عن أن تلك النقاط الحصينة ستصبح شوكة في جنب القوات العراقية المهاجمة جنوباً، وهو ما سيجبرها علي، تحويل جزء من قواتها للتعامل معها.

          ومن حسن الحظ أن خلافاتي مع شوارتزكوف في شأن هذه المسائل الدفاعية التي كانت محور مناقشات حامية في الأشهر الأولى، لم تتفاقم كثيراً؛ لأن صدّام حسين قرر عدم الهجوم. فلو شنّ هجوماً علينا، لكانت هناك قصة أخرى.

          كانت القوة المغربية، وقوامها 1200 جندي، من أولى القوات التي وصلت المملكة. وكان جنودها من أفضل الجنود المتمرِّسين بحرب الصحراء، ولكنها كانت أصغر قوة تأتي إلينا من بلد عربي كبير. خصّصتُ لها نقطة دفاعية حصينة في السفانية، بالقرب من رأس مشعاب، لتسيطر علي طرُق الاقتراب إلي حقولنا النفطية القريبة من الساحل. ولَمّا كان من واجبي الاهتمام والعناية بشؤون القوات التي هبّت إلي مساندتنا، فقد أرسلت إلي القوات المغربية خياماً وفرشاً ميدانية للنوم، ومطابخ متنقلة، وكميات وفيرة من الإمدادات الغذائية. ولكن، عندما ذهبت لزيارتها، طلب العقيد أحمد بنياس، وهو ضابط هادئ يتميز بالانضباط، أن يتحدث إليّ علي انفراد.

          وهمستُ في أُذن قائد المنطقة: "يبدو أنني نسيت أن أزوِّدهم بشيء مما يحتاجون إليه". كنت معتاداً، أثناء تفقدي للوحدات الميدانية، علي تلقي طلبات المزيد من كل شيء. كانت طلبات قادة القوات لا تكاد تنتهي.

          وعلي انفراد، سألت القائد المغربي عما يريد. قال: " إنكم ترسلون إلينا أكثر مما نحتاج إليه من كل شيء. وأخشى أن تُفْسِد هذه الرفاهية جنودي. أرجو أن تقلِّلوا هذه الإمدادات. فلسنا في حاجة إلي كذا وكذا...". وبدأ يسرد عدداً من المواد. فقلت له: "لكم أتمني أن يكون كل القادة مثلك!". كانت طلبات القوات المغربية، حقاً، تقلّ عن طلبات القوات الأخري.

          بعد وصول القوات المغربية إلي المملكة، كانت أول رسالة تلقيتها من قائدها: "نحن تحت قيادتك، وجاهزون لتنفيذ أوامرك". وتقديراً مني لثقتهم الكاملة تلك، فقد آثرت أن لا أُوْكِل إليهم مهمة تضر مصالح بلادهم، أو تحرج قائدهم الأعلى جلالة الملك الحسن الثاني الذي أعرفه شخصياً وأُكن لجلالته كل التقدير والإعجاب؛ إذ سعى منذ بدء الأزمة، إلي التوسط لحل النزاع بين العراق والكويت. وبدلاً من أن يندد بصدام أو يدينه علناً، فقد خاطبه بلهجة معتدلة علَّها تقنعه بفداحة الكارثة التي سوف تسفر عنها الحرب. كان الملك الحسن، باتخاذه هذا الموقف، يضع في حسبانه تيار المعارضة القوي في المغرب إزاء حرب تقودها الولايات المتحدة على العراق كما يضع في تقديره، كذلك، تيار معارضة أقوى لدى جارته الجزائر وهي عضو في اتحاد دول المغرب العربي، التي كان يسعى إلى توطيد علاقاته معها.

          لكل ذلك، رأيت أن من واجبي تجنُّب وضع القوات المغربية في موقف قد يكون سبباً في إحراجه. سألت العقيد أحمد بنياس إن كانت لديه تعليمات من الملك الحسن، في شأن استعداد قواته للقتال ضد العراق لتحرير الكويت فأجاب بالنفي. وردد قوله: "أنا تحت قيادتك، وسأفعل ما تأمرني به".

          أخبرته أنني حريص علي الالتزام برغبة حكومته في هذا الشأن، لكنه قال بصراحة ووضوح: "أنا قائد عسكري تحت إمرتك. والتعليمات الصادرة إليّ أن الأمر يرجع إليك في تقدير أية مهمة تعْهَد بها إلينا".

          وعندما أمعنت التفكير في هذا الموضوع، كان أمامي خياران:
          إما إحالة الأمر إلي سلطة أعلى، مع المجازفة بأن أكون سبباً في إحداث حرج، أو أن أضطلع بالعبء السياسي بنفسي وفضَّلت الخيار الثاني. فلو تبيَّن، بعد ذلك، أنه قرار غير صائب، فإن اللوم سيوجَّه إليّ وحدي. وعند التخطيط لعملية عاصفة الصحراء قررت نشْر بعض القوات في المواقع الدفاعية نفسها التي كانت تتمركز فيها القوات المهاجِمة، بهدف أن تحل هذه القوات محل القوات المهاجِمة عند بدء تقدمها لتحرير دولة الكويت أسندت هذه المهمة، في البداية، إلي وحدات من الحرس الوطني السعودي وحدها. ثم اتخذت قراراً بإسنادها أيضاً إلي القوات المغربية، حتى لا تضطر إلي دخول الكويت فاشترك المغاربة بذلك في خطة درع الصحراء بشكل كامل، وكانوا علي أتم الاستعداد للرد إذا حاول العراقيون مهاجَمة مواقعهم. ولكني لم أشأ أن أقحِمهم في أعمال هجومية في عاصفة الصحراء.

          أرسلت النيجر والسنغال أيضاً وحدتين تتميزان بالانضباط الشديد، بقيادة ضباط مدرَّبين تدريباً عالياً. فعلي الرغم من قلة عدد رجال الوحدتين، إلاّ أن ذلك العدد يُعتبر، نسبياً عدداً ضخماً إذا قُورن بحجم جيشيْ البلدين. فهو يمثِّل جهداً جباراً لا ترقى إليه دول أخرى ذات جيوش ضخمة العدد. فالنيجر مثلاً، أرسلت 481 رجلاً من جيشها الذي يبلغ تعداده 3200 فرد. وعرضت إرسال المزيد. لكن، بما أنها أرادت أن نزوّد رجالها بكامل المعدات والمؤن، رأيت الاكتفاء بهذه القوة الرمزية، إذ كان تأمين الإسناد للقوات المصرية والسورية والأمريكية والبريطانية والفرنسية يشكِّل ضغطاً هائلاً علي الموارد المتاحة. فمع شدة حرصنا علي إشراك أكبر عدد ممكن من الدول في التحالف، إلاّ أنني كنت أفضّل الإسهامات الصغيرة. فخصَّصت لقوة النيجر مهمة الدفاع عن "نقطة دفاعية حصينة" بالقرب من حفر الباطن.

          زارني رئيس هيئة الأركان السنغالي، في أوائل شهر سبتمبر، ونقل إليّ، عن الرئيس عبدو ضيوف، التزاماً بالتضامن معنا والرئيس عبده ضيوف شخصية بارزة، تحظى باحترام بالغ في المملكة. وقد تسلّم زمام الرئاسة عام 1981 إثر تقاعد الرئيس ليوبولد سيدار سنجور leopold sedar senghor. وحرصت بلاده، ذات الأغلبية المسلِمة، على الاشتراك في الدفاع عن المقدسات الإسلامية. لكن السنغال، آنذاك، كانت منشغلة بصراع دموي مع موريتانيا، جارتها في الشمال، التي كان العراق يدعمها، على ما يبدو. وهذا ما دفع رئيس هيئة الأركان السنغالي إلى أن يعلن أن أمن المملكة جزء لا يتجزأ من أمن السنغال، وأن بلاده على استعداد تام لبذل كل ما لديها في سبيل ذلك. فشكرْته لمساندته، وبادلتُ مجاملته الرقيقة بمجاملة مماثلة.

          وكان رئيس هيئة الأركان السنغالي متشوقاً إلى معرفة المهمة التي سأسندها إلى قواته عند وصولها. فاضطررت إلى أن أشرح له صعوبة تحديد مهمة لقوة بحجم لواء في مسرح عمليات شاسع، ناهيك بوحدة أصغر حجماً. عرض علينا إرسال1100 رجل بين ضابط وجندي، أو أكثر من ذلك العدد إذا دعت الضرورة. ولكن عندما سألته إن كانوا سيأتون بمعداتهم وعرباتهم وإمداداتهم، أشار إلى موارد السنغال المحدودة، وإلى صراعها مع موريتانيا وأضاف أن أسلحتهم وملابسهم ومعداتهم تلائم حرب الغابات أكثر من ملاءمتها حرب الصحراء. وأدركت سريعاً ما كان يرمي إليه. وقلت له إن من الأفضل أن يرسلوا كتيبة واحدة من 400 أو 500 فرد بأسلحتهم الفردية فقط.

          وطلبت من الضيف السنغالي استراحة لمدة ساعة نعود بعدها إلى الاجتماع. ثم اتصلت هاتفياً بمدير الإدارة العامة للأسلحة والمدخرات محمد إبراهيم الحديثي، الذي سبق أن عرفته خلال مشروع الصواريخ الصينية. ولمست، عن كثب، قدراته الخاصة، التي لا تستعصي عليها مشكلة. تذكرت أننا كنّا في صدد الاستغناء تدريجياً في قواتنا المسلحة عن 200 عربة قتال مدرعة فرنسية الصنع بانهارد aml-90، وهي من النوع نفسه الذي يستخدمه السنغاليون.
          وسألته: "كـم عربة تستطيع تجهيزها للعمل؟"
          فأجاب: "العدد الذي تريد".
          - "إذاً، لا تفرط بها".

          وبعد فترة، سلّمنا هذه العربات إلى السنغاليين وإلى قوات النيجر والمغرب. وفي نهاية الحرب، أمر الأمير سلطان بإهدائهم تلك العربات تقديراً لجهودهم وعرفاناً بجميلهم.

          وقلت لرئيس هيئة الأركان السنغالي: "يجب أن أكون صريحاً معك. فَلْتَبْقَ قواتك حيث هي حتى نتخذ الاستعدادات اللازمة لاستقبالها". وفي غضون شهر، أرسلت طائرتين من نوع بوينج 747 إلى السنغال لنقل تلك القوات. وكانت هذه أيسر طريقة لنقلها. وخصَّصت لها مهمة التمركز في موقع دفاعي حصين عند ميناء رأس مشعاب، إلى جوار القوات المغربية. فكلتاهما تتكلم الفرنسية، ولذلك لم تعد هناك مشكلة في الاتصال بينهما.

          لم أستغرب شعور القائد السنغالي، العقيد محمد كيتا ( وهو الآن رئيس هيئة الأركان ) بالقلق من احتمال وقوع خسائر في صفوف قواته. ولأسباب لا أستطيع تفسيرها، أقسمت له أن حياة كل جندي تحت قيادتي، أيّاً كانت الدولة التي قَدِم منها، لا يقلّ قدرها عن حياة أي جندي سعودي، وأنني سأبذل كل ما في وسعي للتقليل من الخسائر في الأرواح إلى أدنى حد. ولكن للأسف وقعت حادثتان مأساويتان كانتا سبباً في عدم الوفاء بوعدي، وحزنت لهما حزناً عميقاً، لا أستطيع حتى أن أعبّر عنه.

          ففي يوم 21 فبراير 1991، وقبل انتهاء الحرب بوقت قصير، أصاب صاروخ عراقي من نوع فْرُوجْ frog "النقطة الدفاعية الحصينة" للقوة السنغالية، بينما كان أفرادها مصطفّين في الصباح لاستلام طعامهم من إحدى الشاحنات. فأصيب ثمانية منهم بجروح. وبعد ذلك بشهر، في 21 مارس، تحطمت طائرة نقل c-130 هيركليز، أثناء محاولتها الهبوط في رأس مشعاب، وعلى متنها مجموعة من السنغاليين، في رحلة العودة من مكّة المكرمة بعد أداء العُمْرة. وكانت المصيبة في هذه الحادثة أفدح بكثير من الحادثة الأولى، فقد لقي 91 سنغالياً حتفهم - نسأل الله أن يتقبلهم شهـداء - أي ما يعادل خُمس القوة، بالإضافة إلى طاقم الطائرة السعودي وعدده ستة. إذا أخذنا في الاعتبار هذا التناسب، تكون السنغال قد تحملت من الخسائر في حرب الخليج، ما لم تتحمله دولة أخرى في التحالف.

          أبدينا استعدادنا لإعادة جثث الضحايا إلى بلدهم، لكن عائلاتهم فضلَت أن يُدفنوا في المملكة، فتمت مواراتهم في الثرى في النعيرية، في المنطقة الشرقية، يوم 22 مارس. وأمضيت سحـابة يومي هناك، واشتركت في حفر قبورهم، وحمْل جثثهم الملفوفة بالأكفان وإنزالها إلى القبور. وحضر الدفن وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان السنغاليان. وأدينا صلاة الجنازة معاً. كانت تلك اللحظات من أقسى لحظات الحرب التي مرّت بي ألماً وحزناً، وما زلت، حتى اليوم، أذكرها ببالغ الأسى.

          اقترحت على الأمير سلطان أن توجَّه دعوات إلى أسر جميع ضحايا الحرب، من كل البلدان الإسلامية، لأداء فريضة الحج، فوافق على اقتراحي دون تردد. وأعددنا طائرات خاصة لهذا الغرض.

          كان من دواعي سروري أن أرحّب بقوات من الدول التي كانت، حتى عهْد قريب، تدور في فَلَك الاتحاد السوفيتي. وأعتقد أنني كنت أول من وقّع معاهدة بين المملكة وكل من تشيكوسلوفاكيا والمجر وبولندا. في بداية الأزمة، أعربت هذه الدول الثلاث عن استعدادها لمساندتنا بإرسال معونة طبية أو وحدات أخرى غير مقاتلة. وشعرت بغبطة حين عَلِمت بقدوم وحـدات إلى المملكة من تلك الدول. وكانت هذه أول فرصة لنا للعمل المباشر مع دول كانت، من قبل، أعضاء في حلف وارسو. وعندما التقيتهم وجدت حماستهم، رجالاً ونساءً، أمراً يستحق الثناء.

          أرْسَلَتْ إلينا تشيكوسلوفاكيا وحدة كيماوية قوامها 180 رجلاً، فأضافت بذلك قدرة كيماوية دفاعية كنت في أَمَسِّ حاجة إليها. فما من أحد كان يعلم على وجه اليقين إن كان صدّام سيلجأ إلى استخدام أسلحته الكيماوية أم لا. فبعد الأسابيع القلائل الأولى، تبيَّن لنا أن صداماً لن يجرؤ على شن هجوم بالأسلحة التقليدية، إذ كانت قوات التحالف تفوق قواته بكثير، إلاّ أن احتمال لجوئه إلى الأسلحة غير التقليدية ظل همّاً قائماً، حتى وضعت الحرب أوزارها. ولَمّا كان صدّام قد استخدم أسلحته الكيماوية، من قبل، ضد الإيرانيين والأكراد، فقد اعتقد كثير من الناس أنه لن يتورّع عن اللجوء إليها مرة أخرى، إن وجد نفسه في مأزق حرج. كنت أعتمد على التشيكوسلوفاكيين، في المنطقة شمالي حفر الباطن، اعتماداً كاملاً في مهام كيماوية متعددة مثل الاستطلاع الكيماوي، ومراقبة احتمال استخدام الغازات الحربية، وإنذار القوات عند استخدام العراقيين هذه الغازات، وتحديد نوع التلوث والمناطق الملوثة، وتطهير الأفراد الذين يتعرضون لخطر تلك الغازات وكذلك المعدات والأرض. وحتى تؤدّي الوحدة التشيكوسلوفاكية عملها على الوجه المطلوب، أنشأتْ مختبراً كيماوياً صغيراً خاصاً بها.

          ذهبت لاستقبال الوفد التشيكوسلوفاكي حين وصل إلى جدّة أوائل شهر نوفمبر 1990 وانحصرت مهمتنا في التوصل إلى اتفاق في شأن المجالات التي يمكنهم المشاركة فيها. وحتى ذلك الحين، لم يكن الأمير سلطان قد فوضني بعد صلاحية توقيع اتفاقية معهم. ولَمّا كنت على يقين من أن هذا التفويض في طريقه إليّ، فقد قررت التوقيع على الاتفاقية، حتى لا تفلت من يدي الفرصة في أن أصبح أول سعودي يوقع اتفاقية مع تشيكوسلوفاكيا.

          أمّا بولندا فأسهمت بسفينة مستشفى، وسفينة إنقاذ، وفريقٍ طبيٍّ قوامه 152 طبيباً وممرضة. وكان لفريقها الطبي فائدة عظمى في مستشفى الملك خالد العسكري في حفر الباطن. حضر الفريق الطبي في الوقت المناسب، إذ إن عدداً كبيراً من الممرضات الأجنبيات اللاتي كنَّ يَعْمَلْنَ في المستشفيات المتقدِّمة على الحدود، رَجَعْنَ إلى بلادهن خوفاً مما سَمِعْنَهُ عن الأعمال الوحشية التي ارتكبها جنود صدّام في حق الممرضات في الكويت كما أن عدداً ممن كنَّ في الرياض وجدّة حَزَمْنَ حقائبهن ورَحَلْنَ عن البلاد. لذا، شعرنا بالارتياح لمَقْدم الفريق الطبي البولندي، وكذلك الفريق الطبي المجري الذي كان قوامه 38 شخصاً، بينهم أطباء اختصاصيون مَهَرَة.

          ساهمت بنجلاديش مساهمة ممتازة في مجال الإمداد والتموين، حين أرسلت إلينا عدداً من أفضل ما لديها من وحدات الإسناد في هذا المجال. وكنت، في تلك المرحلة، في حاجة ماسة إلى تلك الوحدات أكثر من حاجتي إلى وحدات مقاتلة. ويبدو أن الاضطرابات المعادية للحرب، التي اندلعت في دكّا، فرضت بعض القيود على نوع المساندة التي يمكن لبنجلاديش تقديمها. إنني لأُكِنّ كل الاحترام للفريق محمد نور الدين خان، رئيس أركان جيشها، وهو رجل يتمتع بنفوذ واسع في بنجلاديش الذي قَدِم لزيارتي لوضع الترتيبات اللازمة للمساندة. ولَمّا ذهبت لزيارة بنجلاديش بعد تقاعدي، تأثرت كثيراً حين حشدت السلطات العسكرية في دكّا لاستقبالي قادة قواتها، وجميع الضباط الذين عملوا تحت قيادتي خلال حرب الخليج. وقد تجشَّم كثير منهم عناء سفر طويل، على الرغم من الفيضانات، وتدفق اللاجئين من بورما، ومصاعب أخرى كان يواجهها ذلك البلد الشجاع.

          كانت باكستان، كذلك، عوناً كبيراً لنا، على الرغم من أن قواتها لم تكن على اتصال مباشر بمسرح العمليات الرئيسي ( في المنطقتين الشرقية والشمالية ). ومنذ السبعينات، ظلت باكستان تقدم إلينا المساندة العسكرية. وتمركزت قواتها، المدرَّبة تدريباً عالياً، في تبوك في الشمال الغربي، وفي خميس مشيط في الجنوب. وعندما انفجرت الأزمة، أرسل الفريق أول محمد الحمّاد، رئيس هيئة الأركان العامة، لواءً باكستانياً لتعزيز مواقعنا الدفاعية على حدود اليمن إذ لم يكن في وسعنا أن نترك حدودنا الجنوبية بلا دفاع، خشية أن يستغل اليمنيون الأزمة فيقدِموا على مغامرة ضد المملكة. لكن المنطقة الجنوبية، على كل حال، لم تكن ضمن مسرح عملياتي. وعندما عَلِمت أن القوات العراقية عززت القوات الخاصة لتكون في حجم لواء، ومن خلفِه فِرقة تسانده، مقابل عرعر، وهي مدينة تقع في أقصى الشمال الغربي على طريق الحجاج القادمين من العراق إلى مكّة، بادرت إلى حشد اللواء السابع المدرع الباكستاني تعزيزاً للواء الحرس الوطني السعودي الذي كان متمركزاً هناك من قبل.

سابق بداية الصفحة تالي