مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

إدارة التحالـــف - القسم الثاني (تابع)

          على الرغم من أن القوات البريطانية،وقوامها 45 ألف رجل، كانت تحت قيادة شوارتزكوف، إلاّ أنني كثيراً ما اجتمعت إلى قادتها، ليس فقط الفريق السير بيتر دي لابليير قائد القوات البريطانية في مسرح العمليات، ولكن أيضاً المشير الجـوي السير باتريك هاين sir patrick hine من القيادة العامة في المملكة المتحدة الذي زار المملكة مرات عدة خلال الأزمة، وكانت لي معه أحاديث طويلة ممتعة للغاية. كنّا نستمتع باستقراء تنبؤات للأحداث المستقبلية، ويعرضها كلّ منّا على الآخر. وغالباً ما كان السفيـر البريطاني المتميز، السير ألان مونرو sir alan munro في رفقة السير بيتر دي لابليير والسير باتريك هاين أثناء زياراتهما لي.

          وأجد، وأنا أقلب صفحات مذكراتي، أنني كنت أستقبل، كل أسبوع تقريباً، ممثلاً بريطانياً عالي المستوي. فقابلت السير ديفيد كريج sir david craig، رئيس هيئة أركان الدفاع البريطاني في أواخر أكتوبر، وتوم كينج tom king، وزير الدفاع في منتصف نوفمبر. وبينما كان الوزير كينج في طريقه لزيارة القوات في الظهران من طريق الرياض، اقترح عقد اجتماع بيننا، لكني، للأسف، لم أتمكن من رؤيته بسبب إصابتي بأنفلونزا حادة والتهابات في الجيوب الأنفية أثّرت في الحبال الصوتية. ولدى عودته اقترح، لطفاً منه، تعديل خط رحلته كي يمر بالرياض مرة ثانية. فأمضينا معاً ساعة من الزمن في المطار، على الرغم من شدة مرضي آنذاك. وقد أعجبت بإلمامه بالتفاصيل الدقيقة كافة، كما سرني إصراره على لقائي قبل سفره.

          وفي أوائل شهر ديسمبر، قام فريق من الأطباء بتجفيف ( بزل ) السائل المسبب لالتهاب الجيوب الأنفية، وأجروا تنظيراً للقصبات الرئوية بواسطة منظار ضوئي ذي ألياف بصرية دقيقة، كي يكتشفوا سبب المعاناة. وضم ذلك الفريق الطبي الدكتور رشيد الكحيمي والدكتور سيد أيوب ( طبيب والدي منذ أكثر من ربع قرن )، ومعهما عدد من الأطباء البريطانيين، على رأسهم الدكتور ريتشارد ماو richard maw، اختصاصي الأنف والأذن والحنجرة من جامعة بريستول البريطانية . وبعد الإفاقة من التخدير العام بنحو ساعتين، توجَّهتُ إلى حضور اجتماع إلى رئيس هيئة الأركان الفرنسي. ولا شك أنه، حين رأى علامات الضعف والإرهاق البادية على مظهري، تساءل عما كنت أفعله قبل الاجتماع!

          زارت السيدة تاتشر، التي كانت وقت الغزو في زيارة الرئيس جورج بوش في أسبن في ولاية كولورادو المملكة في الفترة من 17 إلى 19سبتمبر 1991. وكانت، وقتها، قد تركت رئاسة الوزارة، كما كانت الحرب قد وضعَت أوزارها، وعادت معظم قوات التحالف إلى أوطانها. قالت السيدة تاتشر للأمير فهد بن سلمان، الذي كان يشغل آنذاك منصب نائب أمير المنطقة الشرقية، في حديث معه: " كان جورج متردداً بعض الشيء". وأضافت قائلة إنه لحسن الحظ استطاعت أن تقوي عزيمته". وروى لي الأمير فهد، بعد ذلك، أن السيدة تاتشر هتفت قائلة وهي تنظر إلى حشد من الدبابات والمدافع في المنطقة الشرقية، يستعد للرحيل:" أَكُلّ هذا بسببي أنا!".

          كانت بريطانيا وفرنسا، وهما من الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، من أهم دول التحالف ضد صدّام وذلك بسبب علاقتهما الطويلة بقضايا الشرق الأوسـط. ولو كان الأمر في يدي لدعوت الاتحاد السوفيتي، القائم آنذاك، للمشاركة أيضاً في التحالف. فلم نكن نرغب في أن نكون وحدنا مع الأمريكيين، ولم يكن الأمريكيون راغبين في أن يكونوا وحدهم معنا. وكما كانت المملكة ومصروسوريا من الأعضاء الأساسيين في الجانب العربي من التحالف، كذلك كانت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا تقوم بأدوارٍ رئيسية في الجانب الغربي منه.

          في أحد اجتماعاتنا المبكرة في 25 أغسطس، سألني السير ألان مونرو، السفير البريطاني، إن كنت أرغب في أن تتبادل قواتنا المعلومات عن العراق فأجبته بالموافقة على الفور. كنت في حاجة إلى كل ما أستطيع الحصول عليه من المعلومات، فتم إلحاق ضابط بريطاني على إدارة استخباراتنا، ليكون بمثابة قناة مزدوجة لتدفق المعلومات. وتبَّين أن ما قدَّمه البريطانيون إلينا من معلومات يماثل ما حصلنا عليه من الأمريكيين. وعلى كل حال، فإن التزُّود بالمعلومات من مصدرين مختلفين هو أدعى إلى الاطمئنان إلى صدقيتها في أغلب الأحيان.

          أقمت علاقة وطيدة مع السير بيتر دي لابليير، ونشأت بيننا ثقة متبادلة منذ اجتماعنا الأول، حين أخبرني قائلاً: "على الرغم من أنني أعمل تحت إمرة شوارتزكوف، لكن لدي تعليمات من حكومتي بإطلاعك على كل ما نفعله". فشكرته لكلماته وموقف حكومته، ودعوته لمقابلتي في مكتبي كل أسبوع، وهذا ما كان يحرص عليه. وفي واقع الأمر، كنّا نجتمع أحياناً غير مرة في الأسبوع. وتمكنت بذلك من المساعدة على تذليل بعض المصاعب التي واجهَت القوات البريطانية. وبعيداً عن مشاكل العمل اليومية، شعرت أنه كان حريصاً على تدعيم العلاقات السعودية - البريطانية.

          وفي وقت لاحق خلال الأزمة، عندما أرسل السير بيتر مجموعات من القوات الخاصة البريطانية إلى غرب العراق للبحث عن منصّات إطلاق صواريخ سكود، لحرمان إسرائيل من أية ذريعة قد تتخذها لدخول الحرب، استطعت أن أُيَسّر عبورها السري إلى الأراضي العراقية عبر حدودنا.

          وبفضل خبرته الطويلة بشؤون الشرق الأوسط، كان السير بيتر يتفهم جيداً القيود التي اضطررت إلى فرْضها على القوات الغربية الموجودة في المملكة، تجنُّباً لِمَا قد يسيء إلى العادات أو التقاليد، وقبل كل شيء إلى معتقداتنا الدينية. وكانت إحدى مسؤولياتي الأساسية في إدارة التحالف هي الحرص على أن تكون الأمور على ما يرام في الداخل بعد انتهاء الحرب، وقد تفهَّم السير بيتر هذا الأمر. وكانت قدرتي على التحدث إليه بصراحة تامة وبطريقة مباشرة، مدعاة لارتياحي.

          ولعلمه بوجهة نظري، لم يوافق على طلب قيادته في لندن توزيع علبتين من البيرة لكل جندي في قواته خلال احتفالات عيد الميلاد. كان يقدر أسبابي الخاصة في هذا الشأن. أخبرني، ذات مرة، أنه لو سُمِح للجنود بتعاطي المشروبات الكحولية، لحدَثت مشاجرات داخل الوحدات البريطانية نفسها، وبين البريطانيين والأمريكيين كذلك، فضلاً عن حدوث توترات غير مقبولة مع الشعب السعودي. وقال إنه لو أتيحت له الظروف ثانية لَفَضَّل أن يخوض حرباً صحية كتلك الحرب مرة أخرى.

          تفهمت، بدوري، دوافعه ورغبته في أن تشترك قوته الضاربة الرئيسية، الفِرقة الأولى المدرعة البريطانية، في الهجـوم الرئيسي للتحالف داخل العراق فقد اقتصر دور القوات البريطانية، في البداية، على الهجوم المساند، الذي كان من المقرر أن تنفّذه مع مشاة البحرية الأمريكية شمالاً على طول الساحل الشرقي في اتجاه الكويت لكن هذا التخطيط لم يرضِ السير بيتر، وكان سبباً، كما علمت، في نشوء خلافات حادة بينه وبين شوارتزكوف.

          كان السير بيتر يعتقد أن الشعب البريطاني لن يرضى بأن يُسند إلى قواته دور الهجوم المساند فقط. ففي أكبر حشد للقوات البريطانية خارج الحدود منذ الحرب العالمية الثانية، أراد البريطانيون أن يشاهدوا قواتهم كجزء من قوات الهجوم الرئيسي. فضلاً عن وجود أسباب فنية أخرى منها، مثلاً، أن تشكيلات الدبابات البريطانية كـانت قد تدرَّبت على عمليات استطلاع طويلة المدى في أوروبا، فمن أجْل عرض قدرتها على الحركة والمناورة وقوة نيرانها، فإنها كانت في حاجة إلى الاشتراك في هجوم واسع النطاق عميق المدى. وهذا النوع من الهجوم المتجِه شمالاً لا يتلاءم مع الطريق الشمالية على الساحل الشرقي، فقد كانت طريقاً قصيرة غير ملائمة ومكدسة بالعوائق، مثل المنشآت النفطية وخطوط الأنابيب.

          وعلى الرغم من الوفاق والعلاقات الحسنة بين البريطانيين ومشاة البحرية الأمريكية، وتدريباتهم الناجحة معاً، فإنني أظن أن السير بيتر كان متردداً في تعريض حياة رجاله للخطر إلى جانب عمليات تنطوي على المخاطرة، سعياً إلى إثبات الذات، وتأكيداً للبطولة والشجاعة المشهورة عن وحدات مشاة البحرية، إذ كان رجال مشاة البحرية متلهفين لإثبات جدارتهم، لينعكس أثرها في المعركة الدائرة في البنتاجون حول موازنة الفروع الرئيسية للقوات المسلحة. كان السير بيتر يخشى قيام مشاة البحرية بمثل تلك المغامرات، ولم يكن مستعداً للمجازفة بحياة رجاله. على كل حال، كسب السير بيتر معركته مع شوارتزكوف، وتحركت فِرقته المدرعة غرباً، واشتركت، في نهاية المطاف، في الهجوم الرئيسي على الأراضي العراقية تحت السيطرة التكتيكية للفيلق السابع الأمريكي.

سابق بداية الصفحة تالي