مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

مُبَارزة مع شيفنمان (تابع)

          سبق لي أن قرأت عن الصعاب التي واجهها وينستون تشرشل winston churchill، زعيم بريطانيا، في تعامله مع الجنرال ديجول de gaulle زعيم فرنسا الحرة، أثناء الحرب العالمية الثانية. وكنت أدرك وضع فرنسا المستقل داخل منظمة حلف شمال الأطلسي، لكن القراءة عن هذه الأمور أو مشاهدة فيلم سينمائي عنها شيء، وأن تلمسها بنفسك شيء آخر!

          فمتاعبي مع الفرنسيين لم تقف عند ذلك الحدّ. إذ وقعت حوادث مزعجة عدة، أخذتْ مني الكثير من الوقت. فذات مرة، تم الإبلاغ عن اختفاء جندي فرنسي في ينبع، وظن الفرنسيون أنه ربما اختطفته عناصر مناهضة للحرب. أمرت بالبحث عنه على الفور، وبعد فترة قصيرة، عُثِر على الجندي المفقود مختبئاً في أحد المستودعات. وتبيَّن أنه من مؤيدي حركة دعاة السلام، ولا يريد القتال، فأُعِيدَ إلى فرنسا ليَمْثُل أمام محكمة عسكرية. ومثل هذه الحوادث مألوفة في معظم الجيوش خلال الحروب.

          وقعت حادثة أخرى أكثر خطورة في 29 أكتوبر. إذ ضلّت دورية استطلاع فرنسية، مؤلفة من ضابط واثنين من ضباط الصف، طريقها في الصحراء الشمالية، وعبرت الحدود السعودية-العراقية، فألقى العراقيون القبض علىأفرادها واقتادوهم إلى بغداد وفي محاولة من جانب العراقيين لخَطْب ود حلفائهم السابقين، اتصلوا ( وفي رواية أن صدّام حسين نفسه هو الذي اتصل )، بالسفير الفرنسي لإبلاغه بأنهم يحتجزون ثلاثة من رجالهم. وتصرّف صدّام بدهاء، إذ كان في مقدوره أن يأمر بإعدامهم، فهو لا يقيم وزناً للمواثيق والأعراف الدولية، لكنه اقترح إعادتهم إلى باريس على أمل أن ينجح في شَق صفّ التحالف.

          لم يكن الفريق روكجوفر يدري أن ثلاثة من رجاله مفقودون، حتى سمع النبأ، بعد يوم تقريباً، من الفريق أول شميت في فرنسا حضر روكجوفر إلى مكتبي، وأخبرني أن الفريق أول شميت أمره أن يبلغني بالحادث. وفي الواقع، لقد عرفت، بعد ذلك، أنه تلقى تعليمات بالتزام الصمت يوماً آخر، حتى يتسنى للفرنسيين استجواب رجالهم عن الحادث. وشعرت بالغضب لأنني لم أبَلّغ بالحادث فور علمهم به. ومما أثار سخطي أيضاً، أن الفرنسيين لم ينفّذوا تعليماتي الصادرة من قبل، بعدم إرسالهم دوريات الاستطلاع بعيدة المدى.

          كنت منشغل الذهن خلال أسابيع عدة سابقة، بالدوريات البعيدة المدى التي كانت تدفعها الفرقة الفرنسية، بقيادة اللواء جان شارل موسكاردس jean - charles mouscardes، إلى الشمال من مراكز حدودنا. كان الفرنسيون يؤكدون أن دوريات استطلاعهم، المدرٌّبة تدريباً عالياً، والتي تضم عناصر من الفوج المظلي الثالث عشر، هي متخصصة في جميع المعلومات خلف خطوط العدو. وأضافوا أن أمن قواتهم الخفيفة الحركة يعتمد على الحصول على معلومات استخبارية كاملة عن الأنساق الثانية والاحتياطيات المعادية في عمق الدفاعات. ولكني كنت قلقاً من احتمال أن تجرٌنا هذه الدوريات المتكررة إلى الحرب دون قصد إن هي تخطت الحدود السعودية، لذلك، فرضت حظراً على دفعها. وضاق صدر اللواء موسكاردس بهذا الحظر.

          على الرغم من هذا الحظر، خرجت دورية استطلاع مؤلفة من عربتين، ذهبت كل واحدة منهما في اتجاه معين، بعد الاتفاق على مكان للتجمع ثانية بعد 24 ساعة. ولمّا تخلفت إحدى العربتين عن الموعد المحدد، أبلغت المجموعة الأخرى عن الحادث. لكن الرجال الثلاثة كانوا، آنذاك، محتجزين في بغداد.

          كنت مهتماً، بطبيعة الحال، بالكيفية التي سيظهر بها هذا الحادث في وسائل الإعلام، لعلمي أن الصحافة ستلتقط مثل هذه القصة بسرعة البرق. لذا، أردت التأكد من أن أي بيان سيصدر عن الحادث يجب أن يكون مُتفَقاً عليه بصورة مشتركة بيننا وبين الفرنسيين. وثارت ثائرتي حين أخبرني روكجوفر أن الحكومة الفرنسية تنوي إصدار بيان منفرد دون الرجوع إلينا. فطالبته بإطلاعي على البيان أولاً، قبل نشْره.

          وعندما قرأت البيان، وجدته أسوأ بيان صحافيّ قرأته، على الإطلاق. كان الفرنسيون عازمين على الادعاء بأن العراقيين فتحوا النار على الفرنسيين الثلاثة وأسروهم داخل الأراضي السعودية!

          طار صوابي عندئذٍ، وقلت لروكجوفر رأيي بصراحة في هذا الأمر. وصحت به قائلا: "أولا، هذا البيان، قبل كل شئ، يشبه إعلاناً للحرب؛ لأنه يشير إلى أن المعارك بيننا وبين العراقيين بدأت فعلاً. ثانياً، ما تعلنونه ليس صحيحاً بتاتاً، بل هو إهانة لقيادتي. فكيف يمكن للعراقيين التسلل إلى أراضي المملكة، وفتح النار، وأسر عدد من الجنود الخاضعين لقيادتي من دون علمي بالأمر؟ إن من يسمع أو يقرأ هذا البيان يستنتج أننا عاجزون عن الدفاع عن أراضينا، وأن قواتنا الساترة وقوات حرس الحدود لا أثر لها ولا فاعلية. وسنبدو في أعين الجميع ضعفاء ومهزومين. إنني آسف، لا يمكنني قبول هذا البيان، ولا بد من تعديله".

          أمّا في باريس، فقد أصر شيفنمان، ربما بدافع صداقته السابقة للعراق، على أن الرجال وقعوا في الأسر داخل الأراضي السعودية. وأمر روكجوفر قائلاً: "دع الأمير خالد يفهم أن هذا ما حدث، وليس أي شيء آخر!".

          فأجابه روكجوفر: "أجل يا سيادة الوزير، ولكننا في السعودية، ولا نستطيع أن نفرض...".

          وجد روكجوفر نفسه في وضع لا يُحْسد عليه، حائراً بيننا، من جهة، وبين حكومته، من جهة أخرى. كان الرجل في غاية الحرج والضيق. لكن وزير الدفاع الفرنسي لم يتزحزح عن موقفه قِيدَ أنملة. ولم يكن مستعداً للاعتراف أمام الشعب الفرنسي بأن ثلاثة من جنوده ضلوا طريقهم في الصحراء.

          وسألته قائلاً: "ما الخطأ في الاعتراف بذلك؟ فحتى البدو الذين يعيشون في الصحراء يضلون طريقهم أحياناً". ومع أنني كنت أرغب في التصريح بحقيقة الأمر، إلاّ أنني كنت أحرص على الاتفاق مع الفرنسيين على صيغة مشتركة، لا تعطي العراقيين أي كسب إعلامي.

          وفي وقت متأخر من الليل، وبحضور روكجوفر، قررت الاتصال هاتفياً بالفريق أول شميت في باريس. وكان شيفنمان موجوداً إلى جانبه. تحدثنا طويلاً، وشرحت لهما كيف أني أرسلت جنودي إلى المنطقة، وشاهدوا بأنفسهم آثار عجلات عربة الدورية وهي تتجه نحو الحدود، وأن هناك علامات بارزة من الرمال تدل على خط الحدود باستثناء ثغرة عرضها 40 كيلومتراً. وفي اعتقادنا أن أولئك الرجال عبروا تلك الثغرة، ظناً منهم أنهم لا يزالون داخل الأراضي السعودية. ولم يكن لديّ أدنى شك في أنهم ضلوا الطريق. لكن شيفنمان وشميت أصرّا على نشْر روايتهما عن هذا الموضوع.

          طلبت من الأمير سلطان التدخل، فاتصل بهما ثانية. كما أرسلنا سفيرنا في باريس جميل الحجيلان، وهو من أفضل سفرائنا ومن أصدقائي المقربين، كي يبحث الأمر مع وزارة الخارجية الفرنسية. ولكنه لم يُوفَّق في إحراز أي نجاح. كانت ليلة رهيبة حقاً.

          أمضيت وروكجوفر ساعات طويلة، ليلة الثاني من نوفمبر، نحاول صياغة مسودة لبيان مقبول لكلينا. استمرت محاولاتنا إلى ما بعد منتصف الليل، عندما حضر ضابط فرنسي إلى مكتبي ومعه رسالة سلَمها إلينا، جاء فيها أن شيفنمان تصرّف من طرف واحد وأصدر بيانه للصحافة!

          عندئذٍ، نفد صبري وشعرت بالدم يغلي في عروقي، وطلبت تفسيراً لذلك الموقف. اتصلت بالفريق أول شميت هاتفياً. وصمَّمت على اتخاذ موقف متشدِّد، فقلت له: "اسمح لي يا جنرال أن أسألك سؤالاً. في أي جانب تَقِفون؟ هل أنتم أصدقاؤنا أم أعداؤنا؟ هذا ما أريد منكم توضيحه. لِمَ أصدرتم بياناً يشير إلى عدم ثقتكم بجنودنا، وبقيادة القوات المشتركة؟".

          وهكذا استمر الخلاف بيننا، بين أخذ وردّ، مدى أربعة أيام بلياليها، أطلق عليها روكجوفر، فيما بعد، اسم "حرب الأيام الأربعة".

          صدر البيان الفرنسي،ولم يتضمن أن العراقيين فتحوا النار داخل الأراضي السعودية، لكنه ذكر أن دورية عراقية فاجأت رجالهم وأسَرَتهم. ولم يذكر البيان شيئاً عن مكان وقوع الحادث، وهو محور النزاع. أصدرنا نحن، بدورنا، بياناً بثَّته وسائل الإعلام السعودية، أوضحنا فيه بجلاء، أن الفرنسيين ضلوا طريقهم في الصحراء داخل الأراضي العراقية، حيث وقعوا في أيدي العراقيين. وكان هناك اختلاف واضح بين البيانين. وكم كانت دهشتي كبيرة لعدم تعليق الأمريكيين أو البريطانيين، أو حتى وسائل الإعلام الفرنسية كثيراً على الموضوع! وهذا ما كنت أتمناه لحرصي على تسوية الأمر.

          بعد هذه الحادثة، إعراباً عن استيائي مما حدث، أصدرت أمراً خطياً بسحب الفِرقة الفرنسية إلى جنوب طريق التابلاين، بعيداً عن منطقة الحدود التي كانت مثاراً للخلاف بيننا. ومن الغريب، أنني علمت بعد ذلك أن شيفنمان، نفسه، كان يرى أن الموقع السابق لقواته قريبُ من الحدود أكثر مما ينبغي، وأنه طلب من الفريق أول شميت أن يقترح علىَّ تحريك الفِرقة إلى موقع أقرب لمدينة الملك خالد العسكرية. وهكذا، توافقت توجيهاتي مع ما كانوا يعتزمون المطالبة به. ومن الناحية التكتيكية، أصبحوا في موقع أفضل، يتيح لهم حرية التدخل لتوجيه الضربات يميناً أو يساراً، وفقاً لما تمليه الظروف.

          وفي الوقت نفسه، فرضتُ حظراً على دفع دوريات استطلاعهم شمال طريق التابلاين. فأفقَدَهم هذا الحظر قدرتهم الاستطلاعية البعيدة المدى. كنت مصمِّماً على التعبير عن استيائي من التصرّفات الفرنسية. لذلك، وعلى الرغم من التماساتهم المتكررة، أبقيت الحظر ساري المفعول طوال أسابيع عدة، لأنني أردت تجنب حوادث أخرى من النوع نفسه. ومع أن قرار الحظر اتخِذَ لحمايتهم، إلاّ أنه أزعجهم إلى حدٍّ بعيد. ولكنهم، والحق يقال، أطاعوا الأوامر. ومنذ ذلك الحين، أصبح انضباطهم أشد إحكاماً، وأداؤهم أكثر تميزاً.

          وفي 6 نوفمبر، أي بعد انتهاء الخلاف بأيام، أعرب الأمير سلطان عن رغبته في زيارة القوات الجوية الفرنسية في مطار الأحساء. كان الفريق روكجوفر والسفير الفرنسي في استقبال سموه، كما كنت في شرف استقباله بصفتي قائد القوات المشتركة ألقى الأمير سلطان، في تلك المناسبة، كلمة أثنى فيها على فرنسا بصفتها دولة صديقة هبت إلى مساندتنا. وقال إن أفضل دليل على ذلك هو الصداقة القائمة بين الفريق روكجوفر والفريق خالد. وكانت مبادرة الأمير سلطان تلك مثالاً حياً على موهبة سموه في التوسط في النزاعات وبراعته في حل الخلافات. وهكذا، تحدث القائد وحسم القضية.

سابق بداية الصفحة تالي