مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

مُبَارزة مع شيفنمان (تابع)

          لم أواجِه بعد ذلك متاعب تُذكر مع الفرنسيين سوى حادثة واحدة أخرى.

          فقبيل عيد الميلاد ( الكريسماس ) 1990، بوقت قصير، تلقيت مكالمة هاتفية من اللواء عبد الرحمن العلكمي، قائد المنطقة الشمالية، يخبرني فيها أن المغني الفرنسي إيدي ميتشل eddy mitchell قد وصل للترفيه عن الجنود الفرنسيين، ومعه فِرقته الموسيقية وامرأتان. لم أكن قد سمعت بهذا الخبر من قبل، فأصدرت تعليماتي إليه بأن يبقيهم في مبنى الضيافة العسكرية، حيث يُقيمون، حتى أستفسر عن الأمر.

          ادّعى الفريق روكجوفر أنه أعلمنا بمقدِمهم قبل شهر، وأنة تلقّى موافقة من أحد ضباط أركاني، الذي اشترط عليه ألاّ تواكب حضورهم ضجة إعلامية. ولكن الفرنسيين لم يبرزوا أية وثيقة تثبت هذا الادعاء، فلا أثر لطلب خطي من جهتهم، ولا لإشعار بالموافقة من جهتنا! أو قالوا إن المرأَتَيْن المرافقتين للمغنِّي هما زوجته وخبيرة في التجميل. ولكن الشكّ ساورنا بأنهما راقصتان. وبما أن المملكة تمنع دخول المغنيات والراقصات إلى أراضيها، أدركت مدى العواقب الوخيمة التي يمكن أن يُسفر عنها هذا الأمر. كان من السهل الوصول إليّ في أي وقت أو في أي مكان، فَلِمَ لم يطرح الفرنسيون هذا الموضوع عليَّ في أحد اجتماعاتنا الأسبوعية؟

          وصدرت بيانات متناقضة من جميع الأطراف. ولا أُنكِر أنني أردت تجنب توتر آخر في العلاقات مع الفرنسيين، ولم أرغب في أن أجعل من المناسبة مشكلة جديدة. ولكني علمت أن إحدى قنوات التليفزيون الفرنسي، التي كانت تموِّل رحلة إيدي ميتشل، قد خطَّطت لبث حفلته على الهواء مباشرة، وأن الدعاية لهذه الحفلة ملأت الصحف الفرنسية. وتعجبتُ لهذا الأمر، فهل هذا ما تعهَّد به الفرنسيون بعدم الإعلان عن هذه الزيارة كما يَدعون؟!

          وجدت نفسي مضطراً إلى إبلاغ الأمر إلى الملك والأمير سلطان. فأثار ذلك استياءهما إلى حدٍّ بعيد، وصمَّمَا على أن يقدَّم الضابط السعودي الذي أعطى الإذن للفرنسيين بتلك الحفلة، إلى محكمة عسكرية، إن كان ذلك صحيحاً.

          كان السماح بإقامة تلك الحفلة أمراً مستحيلاً. لكن إيدي ميتشل وفِرقته كانوا موجودين بالفعل في المملكة العربية السعودية. إذ وصلوا يوم 21 ديسمبر، بهدف إقامة احتفالات عيد الميلاد لـ "فِرقة داجية" في الصحراء، وللطيارين في الأحساء، وحتى لضباط أركان القيادة الفرنسية في الرياض.

          ولعل شيفنمان، وزير الدفاع الفرنسي، بتحريض من الصحافة الفرنسية، أراد أن يتحدّى نُظُم المملكة العربية السعودية وقوانينها. اتصل هاتفياً بالفريق روكجوفر واصدر إليه أمراً قاطعاً بوجوب إحياء إيدي ميتشل لحفلاته الغنائية. ومرة أخرى، وكما حدث في قصة الجنود المفقودين الثلاثة، وجـد روكجوفر نفسه في مأزق. وأخبرني، بعد ذلك، أنه كان أمام خيارين، لا ثالث لهما، وكلاهما يؤدّي إلى عزْله من القيادة وإعادته إلى فرنسا فلو عصى أوامر الوزير، لكان عليه مواجهة استدعائه إلى باريس . ولو أنه أطاع وزيره وخالف أحكام البلاد وقوانينها، لأصبح، عندئذٍ، شخصاً غير مرغوب فيه في المملكة العربية السعودية.

          وقرر روكجوفر أن يبحث هذا المأزق مع رئيسه المباشر شميت، في باريس . واتصل شميت، بدوره، بالفريق أول بحري جاك لانكساد jacques lanxade (رئيس الأركان الحالي) طلباً للمشورة. وكان يعمل في ذلك الوقت في قصر الأليزيه، بصفته كبير المستشارين العسكريين للرئيس ميتران وبعد مشاورات مع وزارة الخارجية الفرنسية، وُضِعَ الأمر أمام الرئيس ميتران نفسه.

          اتخذ الرئيس ميتران قراراً حكيماً حين ألغى قرار وزير دفاعه، وأصدر تعليماته بألاّ يُقدّم إيدي ميتشل أية حفلات في المملكة العربية السعودية، ففرنسا لا ترغب في إثارة الخلافات مع المملكة العربية السعودية، وعلى المغنّي أن يعود إلى بلاده. وفي تلك الأثناء، كان شيفنمان على وشك الوصول إلى الرياض، حيث دعاه الأمير سلطان إلى مأدبة غداء ضمن برنامج زيارته. وطُلب منّي أن أنضم إليهما بعد المأدبة لمراجعة الترتيبات الخاصة بالقوات الفرنسية.

          وفي الحقيقة، كان شيفنمان في طريقه جواً إلى الرياض، عندما اتخذ الرئيس ميتران قراره بإلغاء حفلة إيدي ميتشل الغنائية. وأغلب الظن أن تعليمات الرئيس الفرنسي وصلته أثناء الرحلة وهو في الجو. كما اتصل الفريق أول شميت، الموجود في باريس ، بالفريق روكجوفر في الرياض، وأصدر إليه التعليمات كي يكون في استقبال شيفنمان حين تحط طائرته في مطار الرياض، ليؤكد له توجيهات الرئيس بعدم إقامة حفلات غنائية. ولا بد أن هذا القرار أثار غضبه، إذ قرر بعد وصوله، وبمبادرة فردية منه، ألاّ يحضر مأدبة الغداء التي دعاه إليها الأمير سلطان!

          وهكذا توجه شيفنمان من المطار إلى مركز قيادة ، بدلاً من قصر الضيافة. وفي تلك الأثناء، أعلن الأمير سلطان عدم رغبته في استقبال شيفنمان روكجوفر على الإطلاق بسبب تصرّفه المنافي للياقة والكياسة.

          شنّت الصحافة الفرنسية، في ذلك الوقت، حملة شعواء على إلغاء حفلات إيدي ميتشل. وخشية أن تتفاقم الأمور فتصبح أزمة دبلوماسية قد تؤدّي بنا إلى أن نخسر الفرنسيين، اتصلت هاتفياً بالأمير سلطان أسأله السماح لي بزيارة شيفنمان في السفارة الفرنسية، في محاولة لتهدئة الأمور. فسمح لي بذلك على مضض. وهكذا، ابتلعتُ كبريائي وذهبْت.

          حاولت بكل لباقة، أن أبين لشيفنمان أن لكل منّا في وطنه رأياً عاماً لا بد من مسايرته ومراعاته. لذلك، فمن الأفضل لنا أن نغلق ملف هذا الحادث، حتى يصبح من تلقاء نفسه نسياً منسياً.

          بدا شيفنمان، حتى ذلك الحين، هادئاً ومهذباً. ولكنه فجأة وبإشارة تنمّ على نفاد الصبر، كما لو كان يقول: "إنني اتخذت قراري، فلا تُدخِلني في متاهات"، قال في تعجب: "لكن الموسيقى ليست حراماً ( قالها باللغة العربية ). والغناء ليس حراما، وأنتم تذيعون الموسيقى على شاشة التليفزيون، والمصريون، وهم مسلمون أيضاً، يسمحون بالموسيقى والغناء".

          فأجبته: "سيدي الوزير، لا أستطيع الدخول معك في نقاش في ما هو حرام وما هو حلال. فلو كنت ترغب في مناقشة هذا الموضوع بالتفصيل، فعليك البقاء معنا أياما عدةً. أنا نفسي أستمع إلى الموسيقى وأستمتع بها. لكننا، الآن، نُعَرّض عاداتنا وتقاليدنا الوطنية، وبالتالي أمن البلاد للخطر. ولسنا مستعدين للتهاون أو المساومة في هذه المسالة على الإطلاق. وأقول لك، بكل صراحة، إننا لا نريد أن نكسب الحرب ضد صدّام إن كان ذلك الكسب سيعرض بلادنا للخطر". وأضفت: "إننا واجهنا المشكلة نفسها مع الأمريكيين، الذين أرادوا إرسال بعض النساء مع بوب هوب للترفيه عن الجنود، لكنهم قدّروا موقفنا وتصرّفوا بحكمة".
          وقلت له: "إذا أردتم إرسال أحدٍ للترفيه عن الجنود، فليكن. ولكن لا ترسلوا معه فتيات".

          وخلال تلك المقابلة، بدا البرود على شيفنمان. فبذلتُ كل ما في وسعي لأضفي على الجو شيئاً من الدفء، وقلت له لعل كلاًّ منّا أخطأ، وأبديت أسفي لما حدث. ثم غادرت السفارة، وأنا في غاية الضيق.

          بدأت الحملة الجوية في الساعات الأولى من يوم 17 يناير. وعلى النقيض مما جاء في بعض التقارير، فقد اشتركت الطائرات الفرنسية في الحملة منذ اليوم الأول، ولكن ضد أهداف عراقية داخل الكويت فقط. وفي مناقشة عن الأزمة، في الجمعية الوطنية الفرنسية، ليلة السادس عشر من الشهر نفسه، أعلن الرئيس ميتران أنه لن يتخذ أي قرار في شأن المشاركة الفرنسية حتى انتهاء هذه المناقشة. على كل حال، علمت أن الفريق أول شميت اتصل هاتفياً بالفريق روكجوفر ليلة 16-17 يناير، وأخبره أن يمضي قُدماً في المشاركة. وكانت طائرات التزوّد بالوقود الفرنسية، في ذلك الوقت، تحلِّق في الجو مستعدة لتزويد طائراتهم المقاتلة التي انطلقت قبيل الفجر. وشنّ الفرنسيون أولى غاراتهم الجوية نحو السابعة صباحاً بالتوقيت المحلي.

          وفي يوم 19 يناير، عاد شيفنمان إلى المملكة العربية السعودية لمراجعة الموقف مع السلطات السعودية، واجتمع إلى الأمير سلطان. وطغى صوت الحملة الجوية على أصداء حادثة إيدي ميتشل. وزار الوزير الفرنسي أطقم القوة الجوية الفرنسية، لكنه لم يتمكن من زيارة "فرقة داجية" بسبب عاصفة رملية شديدة هبت على المنطقة. وكم كنت سعيداً لأنني لم أُجبر على رؤيته قبل عودته إلى فرنسا!

          عارض شيفنمان، منذ البداية، شن عمليات هجومية ضد العراق اعتقاداً منه بأن الخيارات السياسية والدبلوماسية لم تكن قد استُنفدت بعد. وفي اعتقاده كذلك، أن الأمريكيين هم الذين جرّوا فرنسا جراً إلى الحرب، وأنهم كانوا يسعون إلى شنّ الحرب منذ البداية. لكن أفكاره هذه لم يكن لها أساس من الصحة. ويبدو أن شيفنمان لم يأخذ في الحسبان الخطر الذي كان سيشكِّله صدّام على المنطقة، وعلى مصالح الكثير من دول العالم في المدى البعيد، إذا ما سُمح له بالاحتفاظ بالكويت كجزء من العراق ولَمّا أصبح من المتعذر التوفيق بين أراء شيفنمان وآراء حلفاء فرنسا وآراء زملائه في الحكومة الفرنسية، آثر شيفنمان الاستقالة، بعد وقت قصير من بدء الحرب. وبذلك، أُزيلت عقبة رئيسية من طريق التعاون بيننا وبين فرنسا وبعد عشرة أيام من بداية الحملة الجوية، انضمت الطائرات الفرنسية إلى طائرات التحالف، وقصفت أهدافاً داخل العراق نفسه.

          حَلّ بيير جوكس pierre joxe وزير الداخلية الفرنسي، محل شيفنمان وزيراً للدفاع، وزار المملكة يوم 4 فبراير. ومنذ ذلك الحين، لم نواجِه مشكلة مع الفرنسيين. ولعل الشيء الوحيد الذي أسفت عليه، هو انتقال فِرقتهم المدرعة الخفيفة الحركة إلى السيطرة العملياتية للفريق أول شوارتزكوف. ولَمّا كنتُ وشوارتزكوف نعرف قدرات هذه الفِرقة، فقد قررنا بعد مزيد من المناقشات أن تُسند إليها مهمة حماية الجناح الغربي لقوات التحالف، أي الحد الأيسر للفيلق الثامن عشر، والاستيلاء على "السلمان"، وهو ملتقى طرق برية وجوية مهم داخل العراق.

          ومن المفارقات، أن النتيجة النهائية كانت مختلفة تماماً، بل على نقيض ما كان يتمناه شيفنمان، الذي لم يكن راغباً في أن تَشُنّ القوات الفرنسية هجوماً داخل العراق أو أن تختلط بالقوات الأمريكية. ولكن الذي حدث هو أن الفرنسيين هاجموا إلى اليسار من القوات الأمريكية، وكانت القوات الفرنسية بين قوات التحالف الأولى التي دخلت الأراضي العراقية، بل أكثرها توغلاً في العمق العراقي عند اختراقها.

          بعد الحرب، تمّت ترقية الفريق روكجوفر - القائد العسكري الممتاز والذي أجبرتني الظروف، للأسف، على التصادم معه في مناسبات عدة - وعُهد إليه بقيادة قوات الانتشار السريع الفرنسية far. وتتكون هذه القوات من 47 ألف جندي تقريباً. واشتركت وحدات منها في عمليات الانتشار في الصومال وكمبودياومناطق مختلفة من أفريقيا وفي أراضي يوغوسلافيا السابقة. وتقاعد روكجوفر في ديسمبر 1993 بعد خدمة عسكرية متميزة.

          سافرتُ إلى الولايات المتحدة، بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وانتهزتُ تلك الفرصة لزيارة شوارتزكوف وزوجته، اللذين رحّبا بي أشدّ الترحيب.ودعا ابنه وابنتيه لمقابلة القائد الذي خاض معه الحرب. وحَمّلَني شوارتزكوف وعائلته كثيراً من الهدايا لأولادي. وجرياً على عادة القادة العسكريين، تحدثنا عن بعض التجارب التي خضناها والخبرات التي اكتسبناها خلال تلك الحرب. وتابعنا حديثنا في السيارة ونحن في طريقنا إلى المطار.

سألته: "كيف وجدت الفرنسيين بعد إلحاقهم على الفيلق الثامن عشر؟ هل كنت على وئام معهم؟".
فأجاب:"نعم، كنّا على وئام تام. فَلَمْ أواجه أية مشكلة في التعامل معهم على الإطلاق".
فأجبته مازحاً: "بالطبع، لأنني تلقيت منهم الطلقات كلها".
ولا أعتقد أن هذا التعليق لاقى قبولاً في نفسه.

          وغني عن البيان، أنني لم أقصد الإساءة إلى الفرنسيين، فلا أزال أحمل لشجاعتهم وبسالتهم العسكرية كل إعجاب، على الرغم من كل الخلافات التي نشأت بيننا خلال حرب الخليج.

سابق بداية الصفحة تالي