مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

هُدوء العاصفة (تابع)

          وعلى الرغم من اعتقادي أنني جندي محترف، إلاّ أن ما يمكِن أن يسمى "النشاط الدبلوماسي" استحوذ على قدْر غير قليل من وقتي إبَّان أزمة الخليج، تمثَّل ذلك في إعداد الترتيبات لاستقبال القوات من الدول الشقيقة والصديقة، والقيام بدور المضيف لها، وتزويدها بكل ما تحتاج، وتقديم الشكر لها لاستجابتها لندائنا، وجعْل كل قوة منها تشعر بأنها جزء مهم من قوات التحالف، بصرْف النظر عن البلد الذي جاءت منه، صغيراً أو كبيراً، قريباً أو بعيداً. وبعد انتهاء الأزمة، استأنفتُ هذا الدور الدبلوماسي في سلسلة من الزيارات الرسمية قمت بها في ربيع عام 1991 لنقل شكر وتقدير الملك فهد والمملكة إلى قادة الدول التي ساندتنا. فتوجَّهت إلى مصر وسوريا والبحرين وقطَر، حيث شرَّفني أميرها الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني بتفتيش قواته مع سموه والإمارات العربية المتحدة وعُمان ثم توجَّهت في جولة ثانية، إلى السنغال والنيجر والمملكة المغربية، حيث تأثَّرت كثيراً للفتة الكريمة للملك الحسن، الذي أرسل رئيس وزرائه وعدداً من الوزراء لاستقبالي في المطار.

          وفي شهر أبريل، حان وقت وداع شوارتزكوف، الذي كانت له مكانة في نفسي، على الرغم من التقلّبات التي اعتَرَت علاقتنا. كان حفلة الوداع مؤثّرة، على الرغم من بساطتها، وكم سعدت بوصفه لي "بالخادم المخلِص للمملكة". وفي تلك المناسبة، قلّدني "وسام الاستحقاق من درجة القادة"، إضافة إلى خطاب من الرئيس بوش يشيد فيه بدورِي في تحقيق النصر بعبارات ودِّية. كما قلَّدتُ شوارتزكوف، بدَورِي، "وسام الملك عبد العزيز من الطبقة الأولى"، وهي المرة الأولى التي يتقلَّد فيها هذا الوسام الرفيع ضابط غير سعودي. أما هديتي الشخصية له فكانت ساعة مِعْصِم أنيقة، نُقِشَت عليها عبارة "من أجل صداقة دائمة"، وكان ذلك تعبيراً صادقاً عن مشاعري نحوه.

          كثيراً ما كنت أفكر في أنني وشوارتزكوف أوفر القادة العسكرين حظّاً من بين الذين خاضوا حروباً. فما أقلّ القادة العسكريين في التاريخ، الذين كانوا واثقين من النصر، مثلما كنت وشوارتزكوف. لقد أدى شوارتزكوف مهمته بكفاءة تستحق الإعجاب، وإن لم تخلُ من شيء من الغطرسة. كما أشعر، أحياناً، أن مهمتي كانت أصعب من مهمته وأكثر تعقيداً، وأن المشاكل التي واجهتْها المملكة فاقت تلك التي واجهتْها الولايات المتحدة الأمريكية إذ توافرت لشوارتزكوف وتحت تصرّفه هيئة كبيرة من ضباط الأركان، وخطط واضحة مفصلة، وهيكل قيادي مثالي، وقوات ذات كفاءة قتالية عالية، ومهمة واضحة. أمّا مهمتي في إنشاء قيادة القوات المشتركة، فلم تكن أمراً سهلاً. كان عليَّ أن أختار هيئة أركاني، وأجاهد للحصول على الصلاحيات اللازمة، وأنشئ التنظيم الفعال القادر على استقبال القوات القادمة من أكثر من 24 دولة ونشْرها وإسنادها إدارياً. كان عليَّ أن أوقِّع الاتفاقيات، وأُشرِف على إدارة موازنة ضخمة. وفوق ذلك كلـه، كان عليَّ أن أبذل كل ما أوتيت من جهد كى أحافظ على سمعة بلدي وأرفع اسمه عالياً. كما كان عليَّ أن أكون نداً للأمريكيين، حتى لا تبدو المملكة كتابع للولايات المتحدة.

          وبعد انتهاء الحرب بثلاثة أسابيع، أبلغتني الحكومة البريطانية أن صاحبة الجلالة الملكة ترغب في منْحي "وسام القائد الفارس الشرفي". وبعد استئذان الملك فهد، سَمح لي بقبول الوسام. توجَّهت إلى لندن، بعد سنة تقريباً، وهناك رافقني الفريق السير بيتر دي لابليير وسفير خادم الحرمين الشريفين لدى بريطانيا إلى قصر باكنجهام . انتظرنا قليلاً في إحدى غرف الاستقبال، وبعدها طُلِب إلي الدخول وحدي لمقابلتها. علمت، من قبل، أَن من يُمنح هذا الوسام عليه أن يركع أمام الملكة، ومع تقديري الشديد للشرف الذي تفضلتْ به الملكة، إلاّ أنني لا أركـع إلا لله وحده. لذا، أخذ الاحتفال طابعاً غير رسمي، فتناولنا أقداح الشاي معاً، وأحضر الحاجب، بعد ذلك، الوسام فقدمته الملكة إليّ.

          وخلال حديثنا، ذَكرتها بأنني دخلت قصر باكنجهام عام 1967، أي منذ ربع قرن من الزمان، طالباً مرتدياً الزي العسكري لأكاديمية ساندهيرست خلال زيارة رسمية قام بها الملك فيصل إلى بريطانيا. وقد أُعجبت كثيراً بحرْص الملكة على معرفة تفاصيل الحرب. سألتني عن العمليات العسكرية خلال الحرب، وعن الخسائر في كلا الجانبين، وعن الكويت قبل الأزمة وبعدها. كانت تريد أن تسمع تحليلاً للحرب من وجهة نظرنا. ولعل هذا ما حاولتُ تحقيقه خلال هذا الكتاب.

          ومن المصادفات، أنني ذهبت إلى القصر قبل ساعات من الإعلان عن أن المحققين في قصة لوكيربي ( حادثة تفجير طائرة الخطوط pan am الأمريكية  فوق اسكتلندا والتي راح ضحيتها عدد كبير من الأرواح ) توصلوا إلى تحديد هوية رجلين ليبيين، يشتبه في أنهما زرعا القنبلة في حقيبة سفَر كانت على متن الطائرة. كانت الملكة أول من أخبرني بذلك النبأ، وأسهبت في الحديث بكل اهتمام. كان أمراً مثيراً أن أعرف هذه التفاصيل من مثل ذلك المصدر الرفيع المستوى. ذهبت، بعد ذلك، لتناول الغداء مع رئيس الأركان وكبار الضباط البريطانيين، قبل أن أعبُر الطريق، سيراً على الأقدام، إلى وزارة الدفاع حيث كان في استقبالي عند الباب الرئيسي الوزير توم كينج، الذي نَمَا إعجابي به أثناء الحرب.

          بعد أسابيع عدة من زيارتي لقصر باكنجهام، شرّفني الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران باستقبالي في قصر الأليزيه في باريس، ومنحني "الوسام الوطني لجوقة الشرف من درجة ضابط عظيم". ( ولم أستطع أن أخفي ابتسامتي عندما علمت أن شوارتزكوف تقلَّد الوسام الفرنسي نفسه من الفريق أول موريس شميت رئيس هيئة الأركان الفرنسي، إلاّ أن شوارتزكوف  تفوَّق عليَّ بنقطة بحصوله على وسام من دولة الإمارات العربية المتحدة ). وعلى كل حال، فقد تقلَّدت أوسمة من 12 دولة هي، البحرين، وفرنسا، والمجر، والكويت، والمغرب، والنيجر، وعُمان، وقطر،ّ والسنغال، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى المملكة العربية السعودية . وأظن أن هذا رقم قياسي في الأوسمة، لم يحظَ به أي مقاتل عربي. ويطيب لي أن أُعرِب عن شكري وعرفاني لكل الدول التي منحتني تلك الأوسمة، وكذلك الدول التي لـم تمنحني أوسمة، إذ يكفيني أنها منحتني شرف قيادة قواتها في حرب تحرير الكويت.

سابق بداية الصفحة تالي