الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة    

 
حملة الليطاني
خريطة لبنان
اُنظــــر كـــذلك
 
سلام الجليل الاجتياح الإسرائيلي للجمهورية اللبنانية، 1982، (سلام جليل)
مذبحة قانا الاجتياح الإسرائيلي للجمهورية اللبنانية، 1996، (مذبحة قانا)
الحرب الأهلية اللبنانية
الجمهورية اللبنانية

الفصل الأول
إسرائيل والأزمة اللبنانية
( أسباب الصراع وأهدافه)

        غني عن القول أنّ وجود إسرائيل في قلب الوطن العربي، وعلى حدود أكثر من دولة عربية، يشكل خطراً على هذه الدول جميعها وعلى شعوبها. فضلاً عن أن روابط الأمة الواحدة، قد جعلت من القضية الفلسطينية القضية المركزية في الحياة العربية، منذ عام1948. وكان من نتائج ذلك، أن خاضت المنطقة العربية ثلاث حروب ضد إسرائيل، في ربع قرن، مع الاختلاف في عدد البلدان العربية، وحجم المشاركة ونوعها. ومن الطبيعي، أن البلدان العربية، الأكثر قرباً من الأرض الفلسطينية والخطر الإسرائيلي، كان لها النصيب الأكبر من الاهتمام والمشاركة. لذا، لا يمكن البُعد بلبنان عن التزامه بالقضية الفلسطينية. فلبنان جغرافياً، دولة مواجهة مع إسرائيل، وسياسياً، هو في موقعه الطبيعي حلقة سياسية في الجدار العربي، المحيط بإسرائيل. وهاتان الحقيقتان تفرضان على لبنان عدم اتخاذ موقف الحياد والعزلة.

لبنان والخطر الإسرائيلي

        قبل ظهور القضية الفلسطينية، كان يربط فلسطين بالمناطق المجاورة ـ التي أصبحت بعد الحرب العالمية الأولى كيانات منفصلة ـ وشائج متينة: سياسية واقتصادية ودينية. وقد تعرضت جميعها لأطماع القوى الكبرى وصراعها من أجل السيطرة على المنطقة. وليس مصادفة توافق الأزمة اللبنانية، عام 1840، مع بداية تحرك اليهود نحو فلسطين .

        وحين أصبحت الصهيونية حركة سياسية، تسعى إلى تأسيس دولة يهودية في فلسطين، دخل لبنان في دائرة مواجهة الخطر اليهودي، ليس بحكم الروابط القومية فقط، التي دفعت رجال الحركة العربية فيه إلى معارضة أهداف الصهيونية في فلسطين، والتنبيه إلى أخطارها ، بل لأن الادعاءات الصهيونية، تجاوزت حدود الوطن الفلسطيني الصغير، لتشمل جنوب لبنان، والموارد المائية فيه. وتكشف تطلعات الكُتّاب اليهود، خلال القرن التاسع عشر، أن حدود الأرض المقدسة، في جميع الاقتراحات، التي طرحوها، تشمل مصادر القوة، والأرض الواسعة، والمياه الضرورية للزراعة والصناعة، والمراكز الاستراتيجية، التي تضمن لها السيطرة على الأراضي المجاورة لها، مستندين في ذلك إلى حجج دينية وتاريخية، ظاهراً .

        ومن الملاحظ أن تيودور هرتزل Theodor Herzl ، في مذكراته، يطلق كلمة فلسطين على مساحة من الأرض، تتجاوز حدود فلسطين، المعروفة جغرافياً، لتشمل جميع الأراضي، اللبنانية والسورية والأردنية، وبعض الأراضي، العراقية والمصرية والسعودية. وكان تركيزه على لبنان وسورية (جنوبي لبنان وجبل الشيخ)، نظراً إلى أهميتهما الاقتصادية والعسكرية، واحتوائهما على مصادر المياه، الضرورية لتطوير الحياة، الاقتصادية والاجتماعية، في فلسطين . وقد رافق هذا الاتجاه السياسي عمل استيطاني، بدأ، منذ عام 1882، بإقامة مستوطنات يهودية في الجليل الأعلى، قرب الأردن (حوض نهر الحاصباني)، ومشارف حوض الليطاني، ومستوطنات في حوض بحيرة طبرية، حول اليرموك وسهل جوران، السوري .

        وأثار نشوب الحرب العالمية الأولى الادعاءات الصهيونية بشكل أكثر حدة. إذ مع قرب انهيار الإمبراطورية العثمانية، أصبح تحقيق المطامع الصهيونية أقرب إلى الواقع. وانتقل مركز الحركة الصهيونية، خلال الحرب، إلى لندن. ونتج من ذلك اتجاه بريطانيا إلى دعم خطط الصهيونية في فلسطين، بعد الحرب.

        وكانت بريطانيا، خلال الحرب العالمية الأولى، قد عقدت عدداً من الاتفاقيات المتضاربة، لتوزيع المناطق العربية ورسم الحدود كيفما اتفق، في وقت، لم تكن تسيطر فيه، بعد، على تلك المناطق. وقد استثنت مراسلات مكماهون Henry McMahon ، عام1915، من الدولة العربية، الساحل السوري، من أضنة حتى منطقة في الجنوب، تقع ما بين صيدا وعكا، بحجة المصالح الفرنسية. وقد ثبت، فيما بعد، أن المنطقة الساحلية المستثناة، لا تضم ولاية بيروت، ولا سنجق القدس المستقل، كما ادعت بريطانيا . ودعمت اتفاقية سايكس ـ بيكو Sir Mark Sykes-Georges Picot  ، في 16 مايو 1916، ادعاءات فرنسا بوجود مصالح لها في المنطقة الساحلية من لبنان وشماله. والعنصر الجديد في هذه الاتفاقية، هو تأسيس فلسطين، كوحدة منفصلة، تحت إدارة دولية، مع وجود بريطاني حول حيفا وعكا. وحددت الخريطة، المرفقة بالاتفاقية، حدود فلسطين الشمالية تحديداً، يبدأ من منطقة رأس الناقورة وضواحي صور، ويتجه نحو الجنوب الشرقي، في اتجاه الشاطئ الشمالي لبحيرة طبرية.

        كانت هذه الحدود سبباً لرفض قادة الحركة الصهيونية مقترحات سايكس ـ بيكو، التي قدمتها لهم الحكومة البريطانية، بعد توقيع الاتفاقية، لأن القبول بها يعني خسارة اليهود للجليل ومنابع الأردن. وبدأوا في شن حملة مركزة ، تبين ضرورة شمول حدود الوطن القومي، على الأراضي الواقعة جنوبي بيروت ودمشق.

        وفي الخامس عشر من فبراير 1917، نشرت مجلة "فلسطين"، التي تصدرها الصهيونية، في منشسترManchester، مقالاً بعنوان "حدود فلسطين". تحدثت فيها عن الأسس، التي يجب اعتمادها لترسيم حدود فلسطين "المستقبل". ففيما يتعلق بلبنان، تقول: "إن الحد الإستراتيجي الطبيعي، الوحيد، هو القطاع الضيق، الذي يقع في الشمال، في صيدا، إلى أقصى الحد الجنوبي للبنان، والحد الطبيعي الآخر، هو وادي البقاع، في حال حيازة الأطراف الجنوبية للبنان وجبل الشيخ، وتحصينها تحصيناً، يكفل السيطرة على المخرج الجنوبي لهذا الوادي". وتعني "أقصى الحد الجنوبي للبنان حدود لبنان المتصرفية، وكان جنوبي لبنان الحالي، باستثناء منطقة جزين، يدخل ضمن منطقة سنجق عكا".

        وبعد صدور تصريح بلفور، في 2 نوفمبر1917، بدأت اللجنة الاستشارية لفلسطين عملها، لوضع مقترحات لحدود فلسطين، بالاستناد إلى ادعـاءات تاريخيـة واقتصاديـة وجغرافيـة. وأصـرت على أن تشمل الحدود الشماليـة نهر الليطانــي وجبـل الشيـخ . وحدث تغيير جذري لاتفاقية سايكس ـ بيكو، في شأن حدود فلسطين الشمالية، بعد الاحتلال البريطاني العسكري لفلسطين، عام 1918، واعتبارها منطقة محتلة في الجنوب. فتحولت الحدود إلى الشمال الشرقي في اتجاه بانياس، بدلاً من تحويلها إلى الجنوب الشرقي، في اتجاه طبرية.

        ومنذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وحتى عام 1923، خضع تخطيط حدود فلسطين الشمالية لضغط مزدوج: فرنسي في الشمال، يحاول التمسك باتفاقية سايكس ـ بيكو، أو تعديلها تعديلاً خفيفاً، وبريطاني، بتشجيع من الصهيونية، في الجنوب، يسعى إلى دفع حدود فلسطين شمالاً، داخل سورية ولبنان .

        وبدأت الجولة الأولى لترسم الحدود في ديسمبر 1918، بموافقة جورج كليمنصوGeorges Clemenceau، من أجل تحويل السيطرة على فلسطين إلى سيطرة بريطانية، مقابل دعم بريطاني لمطالب فرنسا في سورية ولبنان. وفي المذكرة الرسمية، التي قدمتها الحركة الصهيونية إلى مؤتمر السلام، 1919، مع الخريطة المرفقة، أصرّت على أن تشمل الحدود الشمالية، والشمالية الشـرقية، على جنوبي لبنان وجبل الشيخ . وأكدت ذلك في مذكرة بلفور إلى لويد جورج Lloyd George ، في 26 يونيه 1919، في شأن تخطيط الحدود: " الأمر الرئيسي، الذي يجب أن يوضع في الحسبان، هو تفعيل السياسة الصهيونية، وذلك من خلال زيادة الموارد في فلسطين. لذلك، يجب أن يكون تحديد الحدود الشمالية لفلسطين ممتدا للسيطرة على المصادر المائية الشمالية، بحيث تدخل في نطاق فلسطين، وليس سورية" . وعاد بلفور Arthur James Balfour في مذكرته، التي يستعرض فيها الاتفاقيات المتعلقة بالمنطقة، إلى القول: "إذا كانت الصهيونية، ستؤثر في المسألة اليهودية في العالم، فيجب تهيئة فلسطين لاستقبال أكبر عدد ممكن من المهاجرين اليهود. وهكذا، فإنه لمن المفضل، بشكل واضح، أن تحصل على سيطرة القوة المائية، التي تتبع لها بشكل طبيعي، إمّا من خلال توسيع حدودها إلى الشمال، أو من خلال معاهدة مع الانتداب في سورية، الذي لا تستطيع مياه جبل الشيخ المندفعة جنوباً أن تكون ذات نفع له بأي حال من الأحوال" .

        وأوضح هربرت صموئيلSir Herbert Samuel   الرغبة في الاستيلاء على مصادر المياه، لتوفير عوامل النجاح لمستقبل فلسطين، في رسالته إلى أعضاء الوفد البريطاني، في محادثات السلام، بباريس، بالقول: "إن نجاح مخطط مستقبل فلسطين بأسره، يعتمد على قدرة البلاد على استيعاب المهاجرين اليهود. وهذا بدوره، يعتمد على تطوير الصناعة والزراعة. ويعتمد تحقيق ذلك على توافر المياه. ومن هنا، كانت الحدود الشمالية المقترحة حيوية للغاية". وشرح ذلك في مقال، ظهر في مجلة "فلسطين" العدد 17، الجزء الثالث، بقلم بن جوريون David Ben-Gurion وإسحاق بن زفي Itzhak Ben-Zvi ، بعنوان "حدود فلسطين ومساحتها". وتضمن المقال شرحاً لأهمية المياه لدولة إسرائيل، من خلال تأكيد أن الحياة الاقتصادية في فلسطين، تعتمد على مصدر المياه الموجودة في شمالي البلاد، ومن الأهمية الحيوية أن تضمن فلسطين استمرار تدفق المياه التي تروي البلاد، وأن تتمكن أيضاً من تخزينها، والسيطرة عليها عند منابعها.

        كانت العقبة الوحيدة أمام ترسيم الحدود الشمالية لفلسطين، هي الاعتراضات الفرنسية. إذ كانت فرنسا تَعُدّ حدود فلسطين الشمالية جزءاً من سورية. ولم يكن كليمنصو على استعداد لتمديد الحدود الشمالية لفلسطين حتى ضواحي دمشق، لمصلحة الصهاينة، والتخلي عن كل مياه دمشق للمستوطنات اليهودية. واقترح حلاً وسطاً، يأخذ في الحسبان تأمين المطالب الصهيونية . إذ تجعل الحدود، بدلاً من أن تضم وادي الليطاني كله، من البحر حتى الانحناء شمالاً، تمتد من مكان بالقرب من نقطة البدء لخط سايكس ـ بيكو، شمال عكا، في اتجاه شمالي شرقي، ليُضم إلى فلسطين انحناء الليطاني نفسه، ومن هنا، يمكنها أن تمتد شرقاً حتى السفوح الجنوبية لجبل الشيخ، جنوب راشيا، قاطعة نهر الحاصباني. وهو اقتراح يترك لسورية المنطقة الساحلية، شمال عكا، وحتى صور وحاصبيا وراشيا. ولكن، تعثرت المفاوضات، إزاء إصرار فرنسا على مواقفها، وإصرار بريطانيا على ضم قضاء صفد، والسيطرة على مياه السفوح الجنوبية لجبل الشيخ، والسفوح الغربية لمرتفعات الجولان، ونهر اليرموك.

        وباء بالفشل كل الجهود، التي بذلها زعماء الحركة الصهيونية، خاصة وايزمان، لإقناع فرنسا بالتخلي عن الأراضي الواقعة جنوب بيروت لفلسطين. واستمرت مفاوضات المندوبين، الفرنسيين والبريطانيين، في شأن الاتفاق على مسألة حدود فلسطين الشمالية، إلى ما بعد مؤتمر سان ريمو San Remo ، حتى توقيع معاهدة 23ديسمبر1920، التي عينت الحدود الفاصلة بين النفوذَين، الفرنسي والبريطاني، بخط يمتد من رأس الناقورة على البحر المتوسط، مروراً ببانياس فحديقة درعا السورية . واستغرق المسح التفصيلي للحدود حتى مارس 1923، حين تم التوقيع على الاتفاق النهائي. وأعلن قادة الحركة الصهيونية سخطهم على الاتفاق، ورضوخ بريطانيا للمطالب الفرنسية، التي أفقدتهم فرصة الاستيلاء على الليطاني ومنابع الأردن العليا وجنوب لبنان وجبل الشيخ وجوران .

        وسعى اليهود إلى الاستيلاء على منابع المياه، وتغيير الحدود بطريقة سلمية، وذلك بشراء الأراضي المحيطة بمنابع نهرَي الأردن والليطاني، من طريق سماسرة ماهرين، وإغراءات كبرى. ولكن محاولاتهم لاقت معارضة من السلطات الفرنسية، التي رفضت استيطان الجاليات اليهودية في الأماكن المحيطة بالحدود، خوفاً من المطامع التوسعية الصهيونية. كما ارتفعت أصوات في لبنان، تحذّر من الخطر الصهيوني . ومع ذلك، فقد نجح اليهود، بين الحربين العالميتين، في أن يبتاعوا قرية "المنارة" اللبنانية، التي تقع على تل مرتفع، يشرف على الجزء الجنوبي الشرقي من "جبل عامل". كما ابتاعوا امتياز تجفيف بحيرة الحولة والمستنقعات المجاورة لها. وكان الغرض من شراء هذه الأرض، هو السيطرة على حوض نهر الليطاني.



الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة