مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

الحرب الجويّة وَصواريخ سكود (تابع)

          كنت بصفتي قائداً لقوات الدفاع الجوي، أراقب تطور الدفاع الجوي العراقي، في السنوات السابقة، بمشاعر يمتزج فيها كثير من الإعجاب والغِبطَة! إذ استطاع العراقيون، بمساعدة السوفيت والفرنسيين، بناء شبكة دفاع جوي كثيفة. وكان ينظر إليها بعض الخبراء على أنها أقوى من دفاعات حلف وارسو warsaw في أوروبا الشرقية. كان الدفاع الجوي العراقي، حقاً، واحداً من أقوى الدفاعات في منطقة الشرق الأوسط. ويقال إنه كان يضم 16 ألف صاروخ أرض - جو، و10 آلاف مدفعٍ مضادٍ للطائرات، و700 طائرة مقاتلة. وقام الفرنسيون، الذين أدوا دوراً رئيسياً في بناء قوة العراق العسكرية، بربط شبكة الدفاع الجوي للعراق بنظام حديث للقيادة والسيطرة يسمى "كاري" kari. وقبل بداية الحملة الجوية، قامت استخبارات القوات الجوية والبحرية الأمريكية، بدراسة مفصَّلة لنظام "كاري"، وحددت مراكز الإنذار المبكر ومراكز السيطرة الرئيسية فيه. وكانت تلك هي أُولى الأهداف التي قُصِفَت، إذ اتُّفق على أن تدمير نظام "كاري" أمر حيوي لنجاح التحالف.

          كان العراق قبل الحرب، قوياً بكل المعايير، ولكن معظم دفاعاته الجوية، تحطّم خلال دقائق. وتبقَّى جزء من أسلحة الدفاع الجوي، المزوَّدة بأجهزة تسديد بصرية، والتي تعمل ضد الأهداف التي تحلِّق على ارتفاعات منخفضة، لأنها لم تتأثر بالحرب الإلكترونية الأمريكية. وحقَّقَت هذه الأسلحة بعض الإصابات الناجحة بالفعل، إذ أَسقَطَت ست طائرات تورنيدو تابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني، عندما كانت تنفّذ عمليات هجومية على ارتفاعات منخفضة، مستخدمة قنابل jp 233 المضادة للمطارات ضد القواعد الجوية العراقية ذات الدفاعات الكثيفة، ولكن نظام الدفاع الجوي العراقي، بصفته نظاماً متكاملاً، لم يلبث أن انهار تماماً. ففي الأيام الأولى من الحرب، أدّت 800 طلعة جوية إلى تدمير 29 مركزاً من مراكز الدفاع الجوي، وكانت تلك ضربة قَصَمَت ظهر نظام "كاري".

          ولم أجد بداً من أن أصرف تفكيري إلى مضمون الحملة الجوية لقوات التحالف، وما يمكن استخلاصه من أهمية القوات الجوية وما يمكن أن تؤديه من دور حيوي لأمننا الوطني، وتأثيرها أيضاً في إستراتيجيتي في بناء القوة الرابعة طوال السنوات الماضية. فكما ذكرت في فصل سابق، كانت حرب أكتوبر 1973 مصدر إلهام لي، إذ أَبلَتْ الصواريخ المصرية أرض- جو بلاءً حسناً في مواجَهة القوات الجوية الإسرائيلية في عملية عبور القناة واقتحام خط بارليف، فكان كل منهما نِدّاً للآخر، بل إن الصواريخ المصرية تفوَّقت علىالقوات الجوية الإسرائيلية قليلاً ونجحت في تحجيمها إلى حدٍّ كبير.عند ذلك، شعرت بأن حرب أكتوبر قد مَحَتْ عار حرب يونيه 1967 . ودفعني إعجابي بالدروس المستفادة من حرب أكتوبر إلى تطوير الدفاع الجوي السعودي وتنظيمه ليصبح "قوة رابعة". ونَجَحْتُ في تحقيق ذلك الهدف بعد سنوات من الجهد والعمل الدؤوب. ولكن العلاقة الآن بين الطائرة والسلاح المضاد لها، عادت إلى ما كانت عليه قبل عام 1973 .

          يُمَثِّل انتصار القوة الجوية، من وجهة نظري، درساً من أهم دروس حرب الخليج. ولا أعني بذلك الطائرات الحديثة فقط، بل نُظُم الحرب الإلكترونية، والأنظمة الفضائية، التي تُعتبر "مُضاعِفات هائلة للقدرة القتالية" لأنظمة القوات الجوية. وبتفوق القوة الجوية، بدأ دور الدفاع الجوي ينحسر مرة أخرى.

          فَقَدَتْ الدفاعات الجوية الثابتة جدواها وفاعليتها أمام طائرات f- 117 ستيلث، وصواريخ كروز والذخائر الموجَهة العالية الدقة، ونُظُم الإنذار المبكر ( أواكس )، وبقيَّة ترسانة عصر الفضاء الأمريكية. كانت النُّظُم المتكاملة عرضة للخطر بشكل كبير، إذ إن تدمير مراكز عمليات القطاع ومراكز عمليات الدفاع الجوي يؤدِّي بسهولة إلى انهيار النظام بكامله. وخير مثال على ذلك، ما شاهدته في سماء العراق من نيران كثيفة غير مؤثِّرة تُشبِه الألعاب النارية في الاحتفالات الوطنية. كما برزت بشكل واضح، لم يسبق له مثيل في التاريخ العسكري الحديث، الأهميةُ القصوى للسيطرة الجوية، فمن دونها كان القتال في حرب الخليج ضرباً من المستحيل.

          كانت تلك المسائل تدور في رأسي، وأنا أشاهد مجريات الحرب الجوية جنباً إلى جنب مع شوارتزكوف، في غرفة الحرب الصغيرة، تحت سطح الأرض في الطابق الأسفل لمبنى وزارة الدفاع. وفي الطابق الأعلى مباشرة، توجد غرفة إيجاز القادة، التي تُمَكِّن نوافذها، ذات الزجاج المائل، القادة من النظر إلى "مركز التنسيق والاتصالات والتكامل لقوات التحالف " في الطابق الأسفل، ويعمل في هذا المركز مئات الضباط السعوديين والأمريكيين وغيرهم من ضباط التحالف، وينسِّقون جهودهم على خرائط جدارية كبيرة. كنت حريصاً على أن تكون جميع الجهات ذات العلاقة العسكرية والأمنية مثل الحرس الوطني والقوات البرية والقوات الجوية والقوات البحرية وقوات الدفاع الجوي ووزارة الداخلية والاستخبارات العامة... إلخ - مُمثَّلة في هذا المركز، فتعمل بالتوازي مع الأمريكيين.

          وفي الأسبوعين الأول والثاني من الحرب، كانت جميع المقاعد في غرفة الحرب متماثِلة في الحجم. وفي أحد الأيام، وعلى نحو مفاجئ، تم تغيير مقاعد الغرفة. فأصبح مقعد شوارتزكوف أكبر حجماً وأعلى موضعاً من بقية المقاعد بقَدَم أو أكثر، بينما ظلّ المقعد الذي خُصِّص لي في مستوى مقاعد ضباط أركانه ولا يختلف عنها. وبدا كأن شوارتزكوف يريد أن ينظر إلينا جميعاً من عَلٍ، طوال أيام الحرب! لم أكن أرغب في مقعد مثل مقعد شوارتزكوف، بل أردت أن يكون مقعدي مختلفاً عن مقاعد ضباطه. وخطرت لي فكرة، وكانت تلك هي المرة الأولى التي أستفيد فيها من آلام الظهر التي أعانيها. قلت متعجباً، وأنا أنظر إلى المقعد الذي خُصِّص لي: " لا يمكن أن أجلس على هذا المقعد، إنه سيزيد من آلام ظهري!".

          طلبتُ مجموعة من المقاعد لأختار منها ما يناسبني. فجربتها الواحد تلو الآخر، وأنا أتنقل بينها جيئة وذهاباً، حتى وقع اختياري في نهاية الأمر على مقعد ضخم يختلف عن كل المقاعد الموجودة في الغرفة. ولم أهتم بأثر تصرّفي هذا في شوارتزكوف، إذ كان من الضروري أن أكون على قدم المساواة معه في غرفة الحرب هذه. ومع ذلك لم أثقل عليه بالبقاء في الغرفة أكثر مما يجب. كنت أعلم أنه يعقد اجتماعات خاصة ويستمع إلى تقارير أركانه كل يوم، لذا كنت أترك الغرفة قبل موعد تلك الاجتماعات. كان في حاجة إلى الانفراد بأركانه، كما أنفرد أنا بأركاني. وفي نهاية الأمر، جلسنا جنباً إلى جنب في غرفة الحرب الصغيرة، وسارت الأمور كما ينبغي.

سابق بداية الصفحة تالي