مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

الحرب الجويّة وَصواريخ سكود (تابع)

          بعد مرور أكثر من 24 ساعة على انتهاء مهلة الأمم المتحدة للعراق، التي تحددت بنهاية يوم 15 يناير 1991 ، انطلقت الحملة الجوية في الساعات الأولى من صباح يوم 17 يناير، وحُدِّدتْ ساعة الصفر (سعت س) لتكون الساعة (0300). ولكن الطلقة الأولى، في واقع الأمر، أُطلقت قبل ساعة الصفر بـ 21 دقيقة، أي سعت (0239) بالتحديد، عندما قامت ثلاث طائرات عمودية من نوع ah-64 apache، وهي طائرات قوية تعمل في كل الأجواء ومسلحة بصواريخ hellfire وصواريخ hydra، بتدمير محطتين للإنذار المبكر على الحدود العراقية، فأحدثتْ بذلك فجوة في الدفاعات الجوية العراقية نَفَذَتْ منها، بعد ذلك، طائرات التحالف من نوع e eagles f-15، و tomcats f-14.

          وفي الدقائق الخمس والعشرين التالية، انطلقت موجات من طائرات f-117 night hawk، من إنتاج شركة "لوكهيد lockheed". وهي طائرات لا يكتشفها الرادار، ومزودة بقنابل موجهة بالليزر. وكانت مهمتها مهاجَمة القصر الرئاسي لصدام، إضافة إلى الملاجئ الحصينة لمقر قيادة القوات الجوية والدفاع الجوي، ومقَاسِم الهاتف، وأبراج المايكروويف، ومحطات تقوية الإرسال وخطوط البثّ، ورادارات الدفاع الجوي، وكذلك مراكز الدفاع الجوي، في أماكن مختلفة من العراق واستطاعت طائراتf-117 أن تفاجئ الدفاعات العراقية وتخترقها متى شاءت، وأن تلقي بقنابلها على الأهداف الحيوية بدقة متناهية. ولم تُصَبْ طائرة واحدة من هذه الطائرات بالنيران العراقية طوال فترة الحرب.

          لم تنجح الرادارات العراقية في اكتشاف طائرات f-117 ستيلث، وهي في الطريق إليها. ولم يدرك العراقيون أن الحرب قد بدأت، إلاّ بعد أن تساقطت القنابل على عاصمتهم، تدمر مباني القيادات وشبكات القيادة والسيطرة. وما من شك أن الصدمة المباغتة والفوضى والدمار كانت بلا حدود. وعلى الرغم من أن العراقيين لم تكن لديهم أية دفاعات ضد تلك الأسلحة المتقدمة، إلاّ أن المعركة من أجل تحقيق السيادة الجوية كانت معركة ضارية في الدقائق الأولى.

          وبعد أن أدت طائرات f-117 ستيلث مهمتها، جاء دور صواريخ توماهوك، وهي صواريخ طوافة، تضرب العمق، وتُطلَق من مسافات بعيدة، فتصيب أهدافها في المناطق ذات الدفاعات الكثيفة بدقة تامة. كانت تلك الصواريخ تُطلَق من 16 سفينة للبحرية الأمريكية، إضافة إلى غواصتين، على مجمع الأسلحة الكيماوية في التاجي، ومقر قيادةحزب البعث، وقصر الرئاسة، ومحطات توليد الطاقة الكهربائية، مما أسفر عن قطع التيار الرئيسي بشكل عام في أنحاء البلاد. كما أصابت ستة من صواريخ توماهوك وزارة الدفاع العراقية بين سعت 1010 وسعت 1017 في اليوم الأول للحرب، من بين 180 صاروخاً أُطلِقت خلال الساعات الثماني والأربعين الأولى على أهداف حيوية عراقية.

          جرت بعد ذلك خدعة تُعَدّ من أكبر عمليات الخداع في الحملة الجوية، إذ أدّت الموجة الأولى من هجمات التحالف إلى تأهُّب ما تبقى من أسلحة الدفاع الجوي العراقي. فعندما اكتشف مشغلو الرادارات العراقية أعداداً كبيرة من الأهداف تنطلق نحوهم مرة أخرى، اعتقدوا أنها موجة أخرى من طائرات التحالف. وفي محاولة يائسة لتحديد مواقع تلك الأهداف لكي تتعامل معها صواريخهم أرض - جو، قام العراقيون بتشغيل راداراتهم بأقصى طاقتها، فكشفوا بذلك عن مواقعها. ولكن الموجة الثانية لم تكن طائرات على الإطلاق، بل كانت طائرات بلا طيار أو أهدافاً وهمية، تظهر على شاشات الرادار كأنها هجوم جوي وشيك. وبعد موجة الطائرات بلا طيار والأهداف الوهمية، جاءت طائرات f-4g wild weasels، وطائرات f-18 hornets، وتركّزت مهمتها الأساسيّة على إسكات الدفاعات الجوية العراقية، وما إن بدأ تشغيل الرادارات العراقية حتى انقضّت تشكيلات من تلك الطائرات لتدمّر العشرات من مواقع الدفاع الجوي باستخدام الصواريخ العالية السرعة، والمضادة للإشعاع، المعروفة باسم "هارم" harm. وتكرر النمط التدميري نفسه تلك الليلة، حول البصرة والكويت.

          بدا واضحاً أن نظام الدفاع الجوي العراقي، الذي اتّصف بعدم المرونة وبالمركزية الشديدة، قد فاجأتْه طائرات ستيلث الخفية، وأربكتْه الحرب الإلكترونية، وأسكتتْه الهجمات الجوية.

          حاول العراقيون دفْع بعض المقاتلات من نوع mig-29، وميراج f-1، لاعتراض مقاتلات التحالف، ولكنها لم تحتمل المواجَهة. إذ لم تكن قادرة على الاتصال بمراكز عملياتها على الأرض، فما لبثت أن أُسقِطت بصواريخ جو- جو، أو هَوَت مرتطمة بالأرض. كانت القوات الجوية العراقية كثيرة العدد، قوية على الورق فقط، متخلفة أمام قوة التحالف وتقنيته، ولذلك تجنَّبت المواجَهة منذ البداية. ففي الأيام الثلاثة الأولى من الحرب، كانت طلعات الطائرات العراقية أقل من 100 طلعة جوية في اليوم..

          لم تكن لدى العراق فرصة لالتقاط الأنفاس منذ صباح اليوم الأول من الحرب، إذ وصلت القاذفات b-52 العابرة القارات إلى أجواء المملكة، بعد رحلة استغرقت 17 ساعة من لويزيانا وأطلقت 35 من صواريخ كروز على محطات الطاقة، والمطارات المتقدِّمة، والأهداف الحيوية الأخرى في العراق

          حدث خلاف بين شوارتزكوف وهورنر، كما علمت، في ما يتعلق باستخدام طائرات b-52 الضخمة. كان خلافاً يعكس وجهة النظر الإستراتيجية لكل منهما. كان شوارتزكوف مهتمّاً بشكل رئيسي بالحرب البرية المقبِلة، وكان يحسب حساباً لفِرق الحرس الجمهوري العراقية، لذا كان يرغب في إنزال أكبر الخسائر بها منذ البداية بطائرات b-52 أمّا هورنر فكان مهتمّاً بتحقيق السيادة الجوية، وقصْف وتدمير الأهداف الحيوية للقيادة العراقية. كان يرى أن فِرق الحرس الجمهوري يمكن التعامل معها في مرحلة لاحقة.

          وفي الليلة التي سبقت الحرب الجوية، ذهب شوارتزكوف إلى مركز قيادة هورنر في الطابق الأسفل لمبنى قيادة القوات الجوية السعودية. وعندما رأى أن طلعات طائرات b-52، التي ستتم على فِرق الحرس الجمهوري العراقي، لم تكن بالكثافة أو القوة التي كان يتوقعها، استشاط غضباً وهدد بإيقاف هورنر عن العمل. وردّ عليه هورنر بأن يفعل ذلك إن أراد. لم ينفعل هورنر لأنّ ثورات شوارتزكوف لم تكن أمراً غريباً عنه.

          وأخيراً صَعَدَ الرجلان إلى مكتب هورنر، حيث قَدّم بستر جلوسون، مدير الخطط، إيجازه المعتاد إلى شوارتزكوف. أوضح فيه عدم إجراء أي تعديل على عدد الطلعات السابق تخطيطها لطائرات b-52. فاعتذر شوارتزكوف، وسارت الحرب طبقاً لإستراتيجية هورنر.

          من بين مختلف الأنظمة التي نشرها التحالف، يُعَد نظام الإنذار المبكر أواكس awacs أهمها على الإطلاق. وهذا النظام عبارة عن مِنَصَّة لإدارة المعركة، كانت تزوِّد قادة التحالف بصورة جوية شاملة بعيدة المدى. يضاف إلى ذلك طائرات f-16 المتعددة الأغراض، التي كانت بمثابة العمود الفقري للقوات الجوية الأمريكية. وبلغ عدد الطائرات التي اشتركت منها في عاصفة الصحراء 251 طائرة، كُلِّفَت بمهمة مهاجمة مصافي البترول ومستودعاته، ومرافق النقل والمواصلات، ومواقع إطلاق صواريخ أرض - جو، وصواريخ سكود، والمطارات وملاجئ الطائرات، إضافة إلى فِرق الحرس الجمهوري، وأهدافٍ أخرى كثيرة. وكانت أكبر غارة لطائرات التحالف هي تلك الغارة التي نفَّذتها 56 طائرة f-16 على مركز البحوث النووية في بغداد يوم 19 يناير.

          كانت هناك عدة عوامل إيجابية لمصلحة القوات المهاجمة، لعل من أهمها طبيعة الصحراء المنبسطة، وقدرة طائرات ستيلث على اختراق الدفاعات العراقية، وقدرة الطائرات الحديثة على تنفيذ خمس طلعات جوية للطائرة الواحدة في اليوم الواحد، واستخدام الذخائر الدقيقة التوجيه لتدمير آلاف الدبابات، وقِطع المدفعية، والدُّشَم، وملاجئ الطائرات المحصَّنة، والجسور، وكثير من الأهداف الأخرى. وفاق عدد الطلعات الجوية، التي كانت تنفِّذها قوات التحالف، في اليوم الواحد كل ما شاهده صدّام خلال الثماني سنوات من حربه على إيران. لم يكن صدّام يدري من أين تأتيه الضربات! ففي اليوم الأول من الحملة الجوية، وليس في الساعة الأولى كما يرى بعض المراقبين، كانت قدرة العراق على شنّ الحرب قد تحطمت إلى حدٍّ بعيد.

          أدى القصف إلى انقطاع التيار الكهربي عن معظم أحياء بغداد كما هُوجم الكثير من "مراكز الثقل"، ودُمِّرت تدميراً تاماً. كذلك دُمِّر الكثير من مواقع الرادارات وصواريخ أرض- جو، ولم يبقَ إلاّ أجزاء منفصلة من نظام الدفاع الجوي، الشديد المركزية، ظلت تعمل بشكل مستقل، وكان لها تأثيرها الفَعّال في بعض الأحيان. ولم يمضِ وقت طويل حتى تحقَّقَت للتحالف السيادة الجوية الكاملة، بما يسمح لطائراته بالتجول في سماء العراق للبحث عن الأهداف الإستراتيجية، والبنْية الأساسية العسكرية والمدنية لتدميرها. وبلغ عدد الطلعات الهجومية التي نُفِّذت ضد العراق 200 طلعة في الساعة الأولى، و900 طلعة في اليوم الأول، و4000 طلعة في الأسبوع الأول. واستمرت عمليات القصف الجوي هذه طوال 38 يوماً، حتى تحطمت إرادة العراق على القتال بشكل تام.

سابق بداية الصفحة تالي