مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

معركة الخفجي (تابع)

          عاد اللواء سلطان إلى مركز قيادته في ريش المنجور في الواحدة من بعد ظهر يوم 30 يناير، أي قبل وصولي إلى مركز القيادة المتقدِّم بساعتين. وانضم إلينا، بعد وقت قصير، اللواء صالح المُحيّا، قائد المنطقة الشرقية، الذي حضر جواً من مقر قيادته في الظهران.

          كان أول واجباتي، بعد أن استمعت إلى تقرير اللواء سلطان، حلّ المعضلة الشائكة للإسناد الجوي. اتصلت بقائد القوات الجوية السعودية، الفريق أحمد بحيري، في مركز العمليات الجوية في الرياض، وأبلغته أني أريد إجراءً فورياً الآن. فأعطى سماعة الهاتف للفريق هورنر الذي كان يجلس إلى جانبه، فقلت له: "أريد إسناداً جوياً، وكذلك ضربات جوية بطائرات b -52 لتدمير التجمعات العراقية ومنْع وصول أي تعزيزات أخرى إلى الخفجي، ولو استدعى الأمر تحويل المجهود الجوي للحملة الجوية على الأهداف الإستراتيجية داخل العراق". كما شدَّدت عليه أن يقلِّل عدد الغارات الجوية على الأهداف الإستراتيجية ويكثَّفها على منطقة الخفجي.

          ولا أدري، حتى اليوم، ما دار بين الفريق هورنر وقيادة مشاة البحرية الأمريكية، لأنني شعرت من إجابته أنه لم يكن مسيطراً سيطرة كاملة على جناح الطيران لمشاة البحرية.

          وانقضت ساعة كأنها دهر، ولم تنفذ أية طلعة جوية. فاتصلت بالعميد أحمد السديري، رئيس هيئة العمليات الجوية. كان الدم يغلي في عروقي، إذ وصلني تقريرٌ يفيد بأن رتلاً عراقيا مدرعا طوله 15 كيلومتراً يتقدَّم نحونا.

          صحت قائلاً: "انسَ موضوع القوات الجوية المتحالفة. إذا لم تتدخل القوات الجوية الأمريكية أو طيران مشاة البحرية فوراً فاسحب كل الطائرات السعودية من المجهود الحربي للتحالف وأرسلها إليّ فوراً. أريد طائرات التورنيدو وطائرات f -5 وكل ما لديك".

          كان ذلك بمثابة إنذار، لم يلبث أن آتى ثماره. فلم تمضِ دقائق حتى قام هورنر بتحويل جزء كبير من القوة الجوية للتحالف من أماكن مختلفة إلى طرق الاقتراب إلى مدينة الخفجي. وبدأ سيْل من طائرات التحالف يقصف القوات العراقية المتقدَّمة، باستخدام الأسلحة الدقيقة التصويب والقنابل العنقودية. وفي غارة واحدة لثلاث طائرات b -52 تم تدمير 80 آلية عراقية، فتصاعدت منها نيران أضاءت كبد السماء. وظلت طائرات التحالف تقصف التجمعات العراقية ليلة 30 - 31 يناير مستفيدة من قدْرتها على القتال الليلي. ونجحت في دحر فِرقتين عراقيتين من الفيلق الثالث اكتُشِفَتا وهما تتجمعان داخل الكويت وتستعدان للهجوم على الخفجي، استغلالاً للنجاح الذي حقَّقَته بعض وحدات اللواء 15 مشاة آلية. كما اشتركت مدافع البحرية في الخليج في تلك المهمة.

          أثبتت الطائرات الأمريكية من نوعطائرات c - 130 فعالية كبرى ضد التجمعات المعادية ؛ إذ إنها مسلحة بمدفعيْ هاوتزر عيار 105 مم على جانبيها. ولكن هذا النوع من الطائرات كان عُرضة للإصابة من أسلحة الدفاع الجوي الأرضية الموجَّهة بَصرياً، ومن ثَم اقتصرت مهامها على الطلعات الليلية فقط. وقبيل فجر 31 يناير، تلقى أحد طياري c - 130 إنذاراً من مركز الإنذار المبكر -أواكس- بالعودة إلى قاعدته فوراً لأن ضوء النهار بدأ ينتشر. فأجاب قائلا: "لا أستطيع.. أمامي أهداف كثيرة"، وبعد دقائق أُسقطت طائرته بصاروخ مضاد للطائرات محمول على الكتف موجَّه بالأشعة تحت الحمراء ، وقُتِلَ أربعة عشر رجلاً كانوا في الطائرة، ولم تُسْتَعَدْ جثثهم إلاّ بعد انتهاء الحرب.

          تمكّن بعض الدبابات وعربات نقل الجند المدرعة العراقية من اجتياز حائط النيران، ولكن عبور الفِرقتين العراقيتين للحدود في شكل منظِّم كان من شأنه، من دون شك، أن يجعل العراقيين متفوّقين على قواتنا في العدد بما يمكِّنهم من إيقاع قدر كبير من الخسائر في صفوفنا، وربما أدّى ذلك إلى اندلاع الحرب البرية الشاملة قبل أوانها، وهذا ما كان صدّام يصبو إليه.

          كانت لتلك الهجمات الجوية على الأنساق الثانية والاحتياطيات العراقية، فعالية لا شك فيها، لكنها ما كانت لتؤدِّي إلى طرد العراقيين الذين دخلوا إلى الخفجي! تلك كانت مهمتنا نحن. فمهمتي العاجلة في ريش المنجور، حيث كان يساعدني باقتدار اللواء سلطان المطيري، تتلخص في تحليل الموقف الراهن بتطوراته السريعة، ووضع خطة للهجوم المضاد، وتخصيص القوات التي سيُوكَل إليها تنفيذ مهمة استرداد الخفجي. وكان ذلك تحدِّياً بالغ الصعوبة.

          إن استرجاع تلك الأحداث، في هدوء، بعد أن مرًّت وفَتَرَ تأثيرها يجردها من القلق والاضطراب والضغوط النفسية التي صاحبتها. ولا يَسَع أي قائد عسكري إلا أن يؤكد أنه في وقت الحرب لا يمكِن للمرء أن يعرف بالتحديد، زماناً ومكاناً، ما يفعله جنوده هو، ناهيك من جنود عدوه. فمهْما بلغت كفاءة القيادة والسيطرة والاتصالات، لا بد من وجود ثغرات في المعلومات المتوافرة لدي القائد. فإصدار الأوامر سهلٌ، ولكن الصعبَ هو التأكد من سرعة إطاعتها ودقة تنفيذها. كانت تلك هي المرة الأولى التي تُخْتَبر فيها القوات السعودية في معركة حقيقية في هذا الحجم.

          وأجد لِزَاماً عليّ الاعتراف بأنني، بالمثل، لم تكن لديّ خبرة سابقة بالحروب. كنت قائداً لم يسبق له أن خاض غمار معركة فعلية. ولم أكن أدري كيف سيكون تصرفيِ حين البأس. اكتشفت أن الرجال في الحرب نوعان: نوع يُصاب بالذعر والهَلَع وتعتريه حالة من الهياج الشديد، ويبدو غير قادر على ممارسة ضبط النفس. ومن الأفضل أن يُستبعَد أمثال هؤلاء الرجال من مواقع المسؤولية على الفور، إذ إن رد فعلهم هذا قد ينتقل إلى سواهم. أمّا النوع الثاني فينتابه الخوف لبِضْع دقائق، وهذا ما يحدث للناس عامة، لكنه لا يلبث أن يهدأ ويتصرّف على نحو مألوف. ولا يبدو أن ثمة فريقاً وسطاً بين النوعين.

          كان التحالف يَزْخَر بعدد من القادة ذوي الخبرة الواسعة، بينهم شوارتزكوف و دي لابليير وروكجوفر، إضافة إلى القادة المصريين والسوريين الذين عَرَكَتْهم حروبهم مع إسرائيل وكذلك القائد المغربي الذي اكتسب خبرته في القتال ضد البوليساريو في الصحراء الغربية. كنت على يقين أن أدائي سيكون موضع ملاحظة هؤلاء القادة جميعاً.

          لعل أكثر ما كان يشغلني هو كيف أُطمئن قيادتي العليا بأنني قابضٌ على زمام الأمور. كان خادم الحرمين الشريفين، القائد الأعلى للقوات المسلحة السعودية، يرغب في أن يري نتائج سريعة وحاسمة، وله كل الحق في ذلك. كان يرغب في طرْد قوات المعتدي في الحال. ولا يريد لصدّام أن يستقر في الخفجي لحظة واحدة، كي لا يظهر للعالم أن في وسعه غزو المملكة والإفلات دون عقاب. لذلك اتصل الملك بي مرات عدة آمراً باتخاذ الإجراءات الفورية. وتلقَّيت تعليمات بهذا المعنى من الأمير سلطان أيضا. كانت تلك أول قيادة لي في حرب حقيقية، وكانت الأزمة بالغة الأهمية. لكنني شعرت بالارتياح عندما علمت بأن الأمير سلطان قال بالحرف الواحد: "إن الأمر الآن في يد خالد، ولا بد أن نتركه يؤدِّي مهمته دون تدخل".

          ظلت تعليمات الملك تتردد في مسامعي. كان يرغب في أن أسترد الخفجي بأقصى سرعة ممكنة، وأن أحسم الأمر مهْما كان الثمن. هانت عليَّ حياتي في تلك اللحظة. فاستوت عندي النجاة والموت. لم يكن الملك يحاول أن يُمْلِي عليّ مساراً معيناً لمعالجة الأزمة. ولكن بدا لي أنه كان في غاية الحرص على استرداد قطعة عزيزة من ترابنا الوطني.

          رَجوْته مُلِحّاً ألاّ يهتم بالأمر. كنت واثقاً من نتائج المعركة القادمة. ولكنني كنت، في الوقت نفسه، حريصا على حقن الدماء. وحاولت أن أوضح رغبتي في إنجاز المهمة بأقل قدْر ممكن من الخسائر في الأرواح. كنت متأكداً من أن الاشتباك في معركة بالسلاح الأبيض داخل المدينة أثناء الليل، سيقضي على قواتي التي لم تكُن مدرَّبة تدريباً جيداً على القتال في المناطق المبنية. كنت أريد أن أَتَرَيَّث وأبدأ الهجوم مع أول خيط من النهار. ولم يكُن في وسعي أن أُظهِر للملك نتائج فورية. والحمد لله أنني لم أُعزل في تلك الليلة!

          وفي تلك الأثناء، أخذت محطات الإذاعة في بغداد وعَمّان وصنعاء تصف الغارة العراقية وكأنها نصر مبين. ويقال إن صداماً زار قواته الأمامية في الكويت وادّعى أنه هو الذي أدار المعركة بنفسه. كنت أعلنت في وقت سابق، قبل أسابيع قليلة، أثناء التجهيز للحملة الجوية، في كلمة لي خلال إحدى جولاتي التفقُّدية، أنه إذا لم ينسحب صدّام من الكويت فسوف نُلَقِّنُه "درساً لن ينساه". وكان عليَّ أن أُثبِت أنني لست ممن يقولون ما لا يفعلون.

سابق بداية الصفحة تالي