إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / العراق والكويت، الجذور ... الغزو ... التحرير / بوادر الأزمة العراقية ـ الكويتية وتطورها (1988 ـ 1990)




أمير الكويت، وصدام حسين
الملك فهد، والرئيس صدام
الرئيس صدام، والملك فهد





المبحث الثاني

رابعاً: محاولات لحل الأزمة

    كان من الطبيعي، إزاء توتر الموقف بين العراق والكويت، أن يحاول بعض ملوك ورؤساء العرب، التوسط بين البلدَين، فظهر بعض المساعي، من الأردن ومصر والمملكة العربية السعودية ومنظمة التحرير الفلسطينية. غير أن تلك المساعي جميعها، لم تسفر عن أي نتائج إيجابية، بل لوحظ أن الوساطات العربية، كانت تجري في الوقت الذي بدأت فيه القوات العراقية تحتشد، وبشكل مكثف، على الحدود الشمالية للكويت.

1. جهود جمهورية مصر العربية

    بعد تبادل المذكرات بالاتهامات، بين الكويت والعراق، أسرعت جمهورية مصر العربية في إصدار بيان، في 20 يوليه 1990، يرى ضرورة تسوية الخلافات بين البلدَين، بالحوار الأخوي، البعيد عن جو الإثارة والتوتر، الكفيل بتمكين كافة الأطراف من الحفاظ على وضوح رؤيتهم للأهداف والغايات العربية، ورسم طريقهم في الحاضر والمستقبل، بما يحيي الأمل في نفوس الجماهير العربية المتطلعة إلى غد أفضل باعتباره الأسلوب الوحيد الذي يحقق مصالح الأمة العربية. (أُنظر وثيقة بيان رئاسة جمهورية مصر العربية، في شأن الأزمة العراقية ـ الكويتية، الصادر في 20 يوليه 1990)

    وفي يوم الإثنين، 23 يوليه 1990، تلقت الحكومة المصرية رسالة، من حكومة الكويت، تذكر أن هناك حشوداً عراقية[4] على حدود بلادها. وطلبت الرسالة تدخّل الرئيس حسني مبارك لمعالجة الموقف. وفي مساء اليوم عينه، اتصل الرئيس محمد حسني مبارك بالرئيس العراقي، صدام حسين، وحدد موعداً للقائه، في اليوم التالي، في بغداد.

    وصباح يوم الثلاثاء، 24 يوليه 1990، كان الرئيس حسني مبارك قد وصل إلى بغداد. ومن الفور، عقد مع الرئيس صدام حسين، اجتماعاً منفرداً. وعن هذا الاجتماع، يقول الرئيس حسني مبارك:

    "قال لي صدام حسين، بالحرف الواحد: يا أبا علاء، إن حكام الكويت مذعورون، رغم أنني لا أنوي القيام بأي عمل عسكري. وأعتقد أنك تستطيع أن تنتهز الفرصة، وتطلب منهم ما تشاء، وأن تطرق الحديد، وهو ساخن ـ أنا أرسلت له هذا في خطابي أيضاً ـ لأنهم سوف يبادرون بالاستجابة إلى طلباتكم، وسوف يتعاملون معها على نحو مختلف عن الأسلوب، الذي اتّبعوه معكم في الماضي". وأضاف الرئيس حسني مبارك: "ولم يكن همنا، في ذلك الوقت، أبداً، أن نطلب لأنفسنا شيئاً من حكومة الكويت أو غيرها. فلسنا نهازين للفرص". واستطرد: "وقد فاتحت الرئيس صدام، بصراحة كاملة، بلا التواء، في أمر الحشود العسكرية. فقال لي بكل وضوح ـ نص كلماته ـ: "إذا كنت أُريد غزو الكويت، فلست بحاجة إلى حشد قوات عراقية. وهدفي فقط هو تخويفهم، والضغط عليهم حتى يستجيبوا إلى مطالبي"".

    وقد اقترح الرئيس حسني مبارك على الرئيس صدام حسين، أن تناقش كافة المشاكل، المختلف فيها بين البلدَين، في مباحثات، تُجرى في جدة، على أن تستكمل في بغداد والكويت. ولقي هذا الاقتراح قبوله، بعد مناقشات طويلة، استمرت نحو ثلاث ساعات. وأعرب الرئيس مبارك عن أمله، أن يمكن التوصل إلى تسوية مُرضية، من خلال هذه المباحثات. وبعد انتهاء زيارته القصيرة إلى بغداد، توجه الرئيس مبارك، في اليوم نفسه، إلى الكويت، ومنها إلى المملكة العربية السعودية. وأبلغ ذلك أمير الكويت، وخادم الحرمَين الشريفَين. واطمأنت جميع النفوس، خاصة أن الملك فهد بن عبدالعزيز، تلقى تأكيداً مماثلاً من الرئيس صدام، أنه ليس هناك حرب، ولا اعتداء عسكري، وأنه لا ينوي أبداً اللجوء إلى أي عمل عسكري ضد الكويت. وقد نصح الرئيس مبارك، الطرفين، أن يبديا مرونة وسعة أفق، في التعامل مع الخلافات بينهما، لأن المهم هو الحفاظ على وحدة الصف العربي وتماسكه، في وجْه التحديات الهائلة، التي تواجهها الأمة العربية. (أُنظر وثيقة خطاب الرئيس محمد حسني مبارك، في اجتماع مشترك لمجلسَي الشعب والشورى، يوم الخميس، 24 يناير 1991، تناول فيه أحداث الخليج، منذ بداية الأزمة وحتى الغزو العراقي للكويت)

    لقد عَدّ الرئيس حسني مبارك نفسه ذا فاعلية خاصة في هذه الوساطة، إذ إن مصر لا ترتبط بالعراق في إطار الجامعة العربية فقط، بل دخلت معه في أحد التكتلات الخاصة، ممثلاً في مجلس التعاون الرباعي. وقد فُهم، عند تكوين المجلس، في فبراير 1989 أن القصد منه هو اجتذاب العراق الأصدقاء في حربه على إيران. ولكن سيتضح، فيما بعد، أن الهدف هو تحييد مصر، في حالة غزو العراق، أو ضمه الكويت. غير أن التنافس التقليدي، بين مصر والعراق، على زعامة المشرق، لم يكن يسمح لمبارك، كما لم يسمح لعبدالناصر من قبل، بالموافقة على ضم العراق الكويت. وكان الرئيس العراقي يعرف هذه الحقيقة، ولذلك لم يصارح مباركاً، عند زيارته بغداد، عقب وقوع هذا التوتر، بنيته الحقيقية، بل على العكس، تعهد له عدم اللجوء إلى القوة، انتظاراً لما ستسفر عنه الوساطات.

2. المساعي الفلسطينية

    ولم تكن وساطة ياسر عرفات بأقل أهمية، نظراً إلى ما تتمتع به منظمة التحرير الفلسطينية، حينذاك، من علاقات، محورها التعاطف مع القضية الفلسطينية. وقد كرر صدام، أمام عرفات، المطالب نفسها، وغلا في ما يرغب أن تقرضه إياه الكويت فأوصله إلى 10 مليارات، فلما حمل عرفات هذه الرسالة إلى الكويت أكد له الشيخ جابر عدم استعداده البتة لدفع مثل هذا المبلغ. وقد شاهد عرفات حشود القوات العراقية، قرب الكويت، إلاّ أنه توقع أن العراق، يستهدف احتلال المناطق الحدودية المختلف فيها، إضافة إلى جزيرتَي وربة وبوبيان، ولم يدر في خلده، مثل كثيرين، أن الهدف هو اجتياح الكويت وضمها.

3. جهود المملكة العربية السعودية

    في يوم السبت، 28 يوليه 1990، بعث الملك فهد بن عبدالعزيز، إلى بغداد، الأمير سعود الفيصل، وزير الخارجية السعودي، الذي نقل إلي الرئيس صدام حسين، بحضور نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية العراقي، طارق عزيز، رسالة شفهية من الملك فهد، يبدي فيها ترحيبه باستضافة وفدَي العراق والكويت، في جدة، لعقد المباحثات المزمعة، وأعرب عن أمله، أن يتوصل الطرفان إلى تسوية للخلافات القائمة بينهما، بالسبل الودية.

    كما قام وزير خارجية المملكة العربية السعودية، في اليوم نفسه، بزيارة إلى الكويت، ليلمس بنفسه رغبة الكويت في لقاء الوفد العراقي، في جدة، لتسوية الخلافات بينهما.

    وفي اليوم التالي، 29 يوليه، بعث خادم الحرمَين الشريفَين، ببرقية إلى أمير الكويت، صادرة بالرقم 353، بتاريخ 7 محرم 1411 هـ، الموافق 29 يوليه 1990م، يشير فيها إلى ترحيبه بوفدَي الكويت والعراق، في لقائهما المرتقب، في جدة، يوم الثلاثاء، 31 يوليه. وحث جلالته الشيخ جابراً على ضرورة تجاوز الأزمة، والتغلب على الصعاب، في ظل التآخي العربي بين البلدَين[5]. (أُنظر وثيقة صورة من نص برقية، خادم الحرمَين الشريفَين، الملك فهد بن عبدالعزيز، إلى أمير دولة الكويت، الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح، صادرة عن ديوان رئاسة مجلس الوزراء، يوم الأحد، 7 محرم 1411هـ، الموافق 29 يوليه 1990م، بالرقم 353، والحاشية التي كتبها الشيخ جابر إلى الشيخ سعد العبدالله الصباح، في نهاية البرقية) و(وثيقة توضيح نص برقية، خادم الحرمَين الشريفَين، الملك فهد بن عبدالعزيز، إلى أمير الكويت، الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح، صادرة عن ديوان رئاسة مجلس الوزراء، يوم الأحد، 7 محرم 1411هـ، الموافق 29 يوليه 1990م، بالرقم 353) و(وثيقة توضيح نص الحاشية، التي كتبها الشيخ جابر إلى الشيخ سعد العبدالله الصباح في نهاية البرقية)

    وتعلّقت الآمال بلقاء مباشر بين أمير الكويت والرئيس العراقي. وحدد موعد اللقاء في 31 يوليه 1990. غير أن الشيخ جابر الأحمد، أمير الكويت، لم يلبث أن أعلن، فجأة، أنه لن يحضر الاجتماع بنفسه، وأنه سوف يوفد، نيابة عنه، ولي عهده، رئيس مجلس الوزراء، الشيخ سعد العبدالله الصباح، لحضور الاجتماع المقرر عقده في جدة. وفي المقابل، أوفد العراق عزة إبراهيم، نائب رئيس الجمهورية العراقية، عضو مجلس قيادة الثورة العراقي، لحضور ذلك الاجتماع.

خامساً: مباحثات جدة

    ظُهر يوم الثلاثاء، 31 يوليه 1990، وصل الوفد العراقي، برئاسة عزة إبراهيم، نائب رئيس مجلس قيادة الثورة، إلى مطار جدة. وكان في استقباله الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، وليّ العهد، ونائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني. وانطلق موكب عزة إبراهيم والأمير عبدالله، إلى مقر إقامة الوفد العراقي، في فندق قصر المؤتمرات، في جدة. وكان الوفد الكويتي، برئاسة الشيخ سعد العبدالله الصباح، قد وصل، هو الآخر، قبل ساعتَين من وصول الوفد العراقي، أي في الساعة العاشرة صباحاً.

    وضم الوفد العراقي في عضويته كلاًّ من الدكتور سعدون حمادي، عضو مجلس قيادة الثورة، ونائب رئيس الوزراء، وعلي حسن المجيد، وزير الحكم المحلي. وضم الوفد الكويتي في عضويته، كلاًّ من الشيخ ناصر محمد الحمد الصباح، وزير الدولة للشؤون الخارجية، وضاري العثمان، وزير العدل والشؤون القانونية، والدكتور رشيد العميري، وزير النفط.

    وعند الساعة السادسة مساء، بدأت المباحثات العراقية ـ الكويتية بجلسة افتتاحية، في الطابق الأرضي من فندق قصر المؤتمرات. وجلس الأمير عبدالله، وليّ عهد المملكة العربية السعودية، متوسطاً الوفدَين. وبعد كلمة قصيرة، رحب فيها بهما، متمنياً لهما النجاح، وآملاً أن يتناسيا خلافاتهما، ويجدا الحلول الفورية لها، بروح العروبة والإسلام، وأن يقدما كل تعاون ممكن، لإنجاح هذه المفاوضات. ووصف المشكلة بين العراق والكويت، بأنها مشكلة بسيطة يمكن أن تجد حلاً من كلا الطرفين. ثم غادر الأمير عبدالله القاعة، بعد انتهاء كلمته، وترك الوفدَين، وجهاً لوجه.

    مرت دقائق، ترقب فيها كلا الوفدَين، أن يبدأ الوفد الآخر الحديث. وأخيراً، بدأ وليّ العهد الكويتي الحديث، موجهاً كلامه إلى رئيس الوفد العراقي، قائلاً: "ماذا لديكم؟ نحن ليس لدينا شيء، تجاه العراق". وقد رد عزة إبراهيم على سؤال الشيخ سعد، بتلاوة مذكرة، كان قد أعدها الوفد العراقي، قبْل المباحثات، تضمنت رؤية العراق إلى الخلاف الناشب مع الكويت. وحُدِّدت فيها مطالبه، التي لخصها في الآتي: (أُنظر وثيقة النص الكامل للمذكرة العراقية التي تلاها عزة إبراهيم، رئيس الوفد العراقي، في بداية جلسة مباحثات جدة، في 31 يوليه 1990)

1. إسقاط الديون المستحقة على العراق.

2. تقديم معونات جديدة.

3. التخلي عن حقل الرميلة الشمالي.

4. رد حقوق العراق المترتبة على استغلال الكويت نفط حقل الرميلة، مدة عشر سنوات، والتي تبلغ 10 مليارات دولار.

    وبعد أن فرغ عزة إبراهيم من تلاوة المذكرة العراقية، تحدث الشيخ سعد العبدالله الصباح، رداً على المذكرة، قائلاً: "أيها الإخوة العراقيون، أنتم الذين سعيتم إلى اتهامنا بما هو دون وجه حق، ولم نسعَ نحن إلى إثارة أي مشاكل معكم. نحن لم نطالبكم بأن تسددوا ديوننا، الآن. ولم نطالب بتعديل الحدود. وكنا، دائماً، على العهد، ننفذ ما تطلبونه منا...". وكان واضحاً أن الشيخ سعد، يبدي تشدداً إزاء المطالب العراقية. وحاول، عبر الألفاظ التي استخدمها، والتي ركز فيها على علاقات الأخوّة بين الجانبَين، تلافي الإسراع في المواجَهة العسكرية. وقد حاول رئيس الوفد العراقي إقناع رئيس الوفد الكويتي، باستجابة المطالب العراقية؛ وعقد معه، لذلك الغرض، اجتماعاً ثنائياً، استغرق 15 دقيقة، تركزت فيه المباحثات، التي جرت بينهما على انفراد، في المسائل المالية، ولا سيما طلب العراق مبلغ 10 مليارات من الدولارات، لمواجهة الظروف الاقتصادية، التي يمر بها، بعد حربه ضد إيران. وقد عبّر الشيخ سعد، خلال هذا اللقاء، عن خشيته من أن يكون هدف القوات العراقية، المتمركزة على الحدود، هو ضرب الكويت، لإرغامها على تلبية المطالب العراقية. ولكن عزة إبراهيم، طمأنه بأن هذه القوات، لن تقاتل الكويت، وأن هذه المفاوضات، هي السبيل لاسترداد الحقوق العراقية.

    وبعد انتهاء هذا الاجتماع القصير، انضم الوفدان إلى جلسة المباحثات. وبدت لهجة المتحدثين أكثر حدّة، حينما طالب رئيس الوفد العراقي بإلغاء ديون العراق، وتقديم معونات جديدة إليه، والتخلي عن حقل الرميلة الشمالي. إلاّ أن الكويتيين لم يكونوا مستعدين للتنازل في أي من هذه الأمور، بل صمموا على مقاومة ادعاء صدام بأن ممتلكات الكويت هي في الواقع مِلْكُّ للعراق. وفي كل حال، فعندما رفض الكويتيون الاستجابة للمطالب العراقية الفورية، بدا عزة إبراهيم وكأنه فَقَدَ اهتمامه بالمحادثات. وعند هذا الحد، رفعت جلسة المفاوضات، التي لم تستمر سوى ساعة ونصف. ولم يكن في نية أي من الوفدين العودة لاستكمالها.

    وفي الساعة التاسعة والنصف مساءً، وصل الوفدان، العراقي والكويتي، في سيارة واحدة، إلى القصر الملكي، لإبلاغ خادم الحرمَين الشريفَين، بنتائج مباحثاتهما. والتقى الجميع في دعوة عشاء، وجّهها الملك فهد بن عبدالعزيز. ثم تناولا العشاء إلى مائدة الملك فهد، وأثناء ذلك، حافظ الطرفان على مظاهر اللطف واللباقة. جلس الشيخ سعد إلى يمين الملك، بينما جلس عزة إبراهيم إلى يساره. ولم يصدر أي منهما ما ينم على انقطاع العلاقات بينهما، أو على وصول الاجتماع إلى طريق مسدود.

    ووسط هذا التفاؤل، عُقدت جلسة مباحثات أخيرة بين الوفدَين، بعد مأدبة العشاء. وقد انعقدت بشكل غير رسمي. وخلالها، كرر رئيس الوفد العراقي مطالبه، ووضع التفاصيل الفنية لتنفيذها. ولكن الشيخ سعداً ردّ عليه قائلاً: "هناك قضية، يجدر بنا طرحها، قبْل الاتفاق على أي تفاصيل. وهي قضية الخط النهائي، والثابت، للحدود بين بلدينا. ويمكننا معالجة المسألة، الآن". وأدى هذا الشرط إلى انفجار الموقف من جديد، فقال عزة إبراهيم غاضباً: "لماذا صمتّم كل هذا الوقت؟ أليس بمقدوركم طرح هذا النزاع منذ البداية، إذا كان هو الأهم؟". وكان رد الشيخ سعد: "إن تعليمات الأمير لدينا، ألاّ نثير النزاع الحدودي، منذ البداية". وانتهي الاجتماع عند هذا الحدّ، بعد أن اتفق الطرفان على عقد جلسة مباحثات ثانية، في بغداد.

    وفي يوم الأربعاء، الأول من أغسطس 1990، عاد الوفدان، العراقي والكويتي، كلٌّ إلى بلده. وقد تفاوتت التصريحات التي أدليا بها. فتصريحات الشيخ سعد العبدالله، في جدة، قبْل مغادرته إلى الكويت؛ وتصريح الدكتور سعدون حمادي، بعد وصوله إلى بغداد، فضلاً عن ملامح وجوه أعضاء الوفدَين، بعد وصولهم إلى بلدَيهم ـ أوحت بأن كفة الانفجار، رجحت كفة الانفراج.

    فقد أدلى الشيخ سعد العبدالله الصباح بتصريحات له، في جدة، قبل مغادرته إلى الكويت، أشاد فيها بالجهود، التي بذلها الملك فهد بن عبدالعزيز، ووليّ عهده، الأمير عبدالله، والرئيس حسني مبارك، إذ قال: "إن المباحثات اتسمت بالوضوح وإبراز المواقف، حيث تم التداول في كافة جوانب القضية، المطروحة بين البلدَين الجارَين. وقد استمعت، بكل اهتمام، إلى وجهات النظر، التي أدلى بها سيادة الأخ النائب. كما أوضحت موقف الكويت، من موقع المسؤولية الوطنية والالتزام القومي، حيال كل المسائل، وذلك انسجاماً مع سياسة الكويت الثابتة تجاه جيرانها، وتماشياً مع شعورها بالمسؤولية، في هذا الظرف الدقيق الذي تجتازه أمتنا. وقد أكدت إيمان الكويت بالحوار الموضوعي، وفق مبادئ حُسن الجوار، والرغبة في حل المشاكل بالتفاهم والمفاوضات المباشرة. والتزاماً بهذا النهج، فإنني أتطلع إلى مواصلة اللقاءات، واستمرار المفاوضات، في كلا البلدَين الشقيقَين، من أجل التوصل إلى حل لكافة القضايا، وفق ميثاق الجامعة العربية، بما يؤمّن مصالحنا المشتركة، والمشروعة...".

    أما التصريح الذي أدلى به الدكتور سعدون حمادي، إلى وكالة الأنباء العراقية، بعد وصوله إلى بغداد، فقد قال فيه: "بحث الجانبان مختلف المشاكل القائمة بين البلدَين. واستعرض كل جانب وجهة نظره. وستستمر اللقاءات، لمواصلة البحث، في بغداد، حسب ما تم الاتفاق عليه، بين السيد الرئيس صدام حسين والسيد حسني مبارك، رئيس جمهورية مصر العربية، وخادم الحرمَين الشريفَين، الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود، عاهل المملكة العربية السعودية...". ورداً على ما إذا كان حصل، خلال المباحثات، اتفاق على شيء أم لا. أجاب الدكتور سعدون: "كلا، لم يحصل اتفاق على أي شيء؛ لأننا لم نلمس من الكويتيين أي جدية في معالجة الضرر البالغ، الذي لحق بالعراق، من جراء تصرفاتهم ومواقفهم الأخيرة، ضد مصالح العراق الأساسية...".

    ولم يقتصر الأمر على تصريح الدكتور سعدون إلى وكالة الأنباء العراقية. إذ اتجه عزة إبراهيم، فور وصوله إلى بغداد، إلى الاجتماع بالرئيس العراقي، صدام حسين، بحضور كلٍّ من طه ياسين رمضان، عضو مجلس قيادة الثورة، النائب الأول لرئيس الوزراء؛ وطارق عزيز، نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية؛ ولطيف نصيف جاسم، وزير الثقافة والإعلام؛ وحسين كامل حسن، وزير الصناعة والتصنيع العسكري. وأوردت وكالة الأنباء العراقية، في شأن الاجتماع، الآتي:

    "عرض السيد نائب رئيس مجلس قيادة الثورة، عزة إبراهيم، تفاصيل اللقاء مع وفد الحكومة الكويتية، برئاسة رئيس وزرائها. وقد اتضح للسيد الرئيس القائد، صدام حسين، ومن حضر اللقاء، بأن الوفد الكويتي، لم يأتِ بما هو جديد، لمعالجة الغبن والتجاوز، الذي ألحقته حكومة الكويت بشعب العراق وبأرض العراق. وأن الروح والعقلية، التي تصرف بها وفد حكومة الكويت، تعزز قناعة العراق بالدور التآمري، الذي قامت به حكومة الكويت ضد العراق. وأن قبولها للقاءات مع من يمثل العراق، ما هو إلاّ واحدة من وسائلها، التي اعتمدت عليها في كسب الوقت، للإمعان بالتخريب والتآمر والإيذاء...".

    واختلفت الروايات في ما دار في جلسة المباحثات، في جدة. وكل طرف يرمي فشلها على الطرف الآخر:

    فالرواية العراقية حول سبب فشل المباحثات،، تقول إن رئيس الوفد العراقي، شرح موقف العراق، من دون أي جنوح للتهديد. وكرر المطالب العراقية، بخاصة ضرورة أن يدفع الكويتيون 10 مليارات من الدولارات إلى العراق، نظير النفط الذي استولوا عليه من حقل الرميلة. وأن الوفد الكويتي راح يفند المزاعم العراقية، بدلاً من أن يطرح خطة أو مشروعاً ما للحل. فبدأت أول موجات التوتر؛ إذ لم يكن هناك حاجة إلى التفنيد، فالعراقيون طرحوا طلبات، ولم يطرحوا ادعاءات. وبالرغم من ذلك فقد كان الجو السائد لا يزال خالياً من الحدة إلاّ أنه لم يكن يتناسب مع حدة الموقف، حتى جاءت موافقة الشيخ سعد على منح هبة بمقدار تسعة مليارات للعراق بدلاً من عشرة مليارات كما طلب العراق، وليس معلوماً السبب من وراء استنكاف الكويت على المليار العاشر الذي اعتبره العراق إهانة له ـ إذا كانت الرواية صحيحة ـ وكان رد الفعل العراقي أنه لا يقبل أقل من عشرة مليارات. (أُنظر وثيقة نص الحديث، الذي دار بين الوفدَين، العراقي والكويتي، في الجلسة الثانية من مباحثات جدة، حسب الرواية العراقية)  

    وهناك رواية كويتية عن مباحثات جدة، على لسان الشيخ سعد العبدالله الصباح، رئيس الوفد الكويتي، ذكرها في حديث له، في لندن يوم الثلاثاء، 4 سبتمبر 1990. (أُنظر وثيقة رواية الشيخ سعد العبدالله الصباح، عن محادثات جدة، والساعات الأولى للغزو العراقي للكويت، في لقاء له في لندن، يوم الثلاثاء، 4 سبتمبر 1990)

    وثمة رواية أخرى محايدة، وهي التي رواها خادم الحرمَين الشريفَين، الملك فهد بن عبدالعزيز، بعد الغزو العراقي للكويت، ببضعة عشر أسبوعاً، وتحديداً يوم الإثنين، 26 نوفمبر 1990، أمام جموع من المواطنين، استقبلهم في قصر السلام، في مدينة جدة. وأوضح فيها ما حدث بين الوفدَين، العراقي والكويتي، في محادثات جدة، يوم الثلاثاء، 31 يوليه 1990. (أُنظر وثيقة رواية خادم الحرمَين الشريفَين، الملك فهد بن عبدالعزيز، عن محادثات جدة، والساعات الأولى للاجتياح العراقي للكويت، ألقاها في قصر السلام، في جدة، يوم الإثنين، 26 نوفمبر 1990)

    كما أن الرئيس حسني مبارك، ألقى الضوء على هذه المباحثات، في خطابه أمام مجلسَي الشعب والشوري، يوم الخميس، 24 يناير 1991، الذي تناول فيه أحداث الخليج، منذ بداية الأزمة وحتى الغزو العراقي للكويت، فقال: وصل الوفدان، العراقي والكويتي، إلى جدة، يوم الثلاثاء، 31 يوليه. واقتصرت جلسة المباحثات الأولى على تقديم عزة إبراهيم، نائب رئيس مجلس الثورة العراقي، عرضاً موجزاً جداً للمآخذ العراقية، على تصرفات الجانب الكويتي. ثم أظهر المسؤول العراقي عدم تحمسه لسماع وجهة نظر الكويت، في هذه الجلسة. واتُّفق على اجتماع ثانٍ، عُقد بعد ظُهر يوم الأربعاء، الأول من أغسطس 1990، أي قبْل العدوان بيوم واحد، دار فيه حديث موجز بين الوفدَين. تذرع رئيس الوفد العراقي، بعده، بأنه متعب، لا يستطيع أن يدخل في مزيد من التفاصيل. وبذلك، انتهى الاجتماع، على أن تستكمل المباحثات في بغداد، ثم في الكويت، وفقاً للاتفاق المسبق. وغادر الوفد العراقي المملكة العربية السعودية، في المساء ـ نحو الساعة العاشرة مساءً. وبعد أربع ساعات، وبالتحديد، في الساعة الثانية، من صباح الثاني من أغسطس، بدأ الغزو العراقي المسلح. (أُنظر وثيقة خطاب الرئيس محمد حسني مبارك، في اجتماع مشترك لمجلسَي الشعب والشورى، يوم الخميس، 24 يناير 1991، تناول فيه أحداث الخليج، منذ بداية الأزمة وحتى الغزو العراقي للكويت)

    في هذه الأثناء، كانت أنظار المراقبين، تتطلع إلى موقف كلٍّ من الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، وعلى الأخص بعد انعقاد اجتماع جدة. وقبل أن ينتهي الاجتماع بالفشل، ويعود الوفدان، كلٌّ إلى بلده، كان الناطق باسم الخارجية الأمريكية يقول: "لقد رحّبنا ببدء مباحثات جدة، كأفضل طريقة لحل نزاعات من هذا النوع، بدلاً من اللجوء إلى التهديدات والضغوط. ولا نزال نرغب في أن يسعى جميع الأطراف للعثور على وسائل، لحل الخلافات سلمياً، وأن يحترموا جميع الدول في المنطقة...". وحينما قيل للناطق، إن محادثات جدة فشلت، أجاب: "إن الولايات المتحدة، لا تعرف، بالضبط، ما الذي جرى في جدة. وهي تتصل بسفاراتها في المنطقة، للتأكد من صحة أنباء انهيار المباحثات، وسبب هذا الانهيار. وسيستدعي جون كيلي، مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط، السفير العراقي لدى واشنطن، محمد المشاط، ليكرر له قناعة الولايات المتحدة، بأنه يجب حل النزاعات بالطرق السلمية...".

    تلك هي الصورة التي كان عليها الموقف وسارت عليها الأحوال في الأشهر التي سبقت الاجتياح العراقي للكويت، في فجر 2 أغسطس 1990.


 



[1] كان الملك حسين يقطن في هذا القصر، قبْل مصرع زوجته الملكة عالية، إثر حادث تحطم طائرة عمودية

[2] قال ياسر عرفات، إن فكرة عقد القمة العربية، في بغداد، حبذت لتكون مظاهرة تأييد للعراق على مواجهة التهديدات، الأمريكية والإسرائيلية

[3] من الملاحظ، أن هذه الرسالة مؤرخة في 15 يوليه 1990، أي قبْل أن يلقي الرئيس العراقي كلمته، مساء يوم الثلاثاء، 17 يوليه. وأُذيعت، رسمياً، في بغداد، يوم الأربعاء 18 يوليه، أي في اليوم التالي لخطاب الرئيس العراقي، الذي اتهم فيه بعض الدول الخليجية، بأنها وراء مؤامرة نفطية، موجَّهة ضد العراق. وكانت هذه الكلمة، مع المذكرة العراقية، بداية لنشوب أزمة الخليج

[4] حشدت العراق قوات الفيلق الثامن، وهي من قوات الحرس الجمهوري، حيث بلغت هذه القوة أكثر من 30 ألف جندي، وتم انتشارها في مناطق الجليبة والزبير وجنوب البصرة وحتى مسافة 30 كيلومتراً من الحدود الكويتية، وقد أعلن العراق أن الهدف من هذا الحشد العسكري هو إجراء تدريبات ومناورات ليلية.

[5] وقد تم العثور على هذه البرقية بواسطة القوات العراقية التي استولت على بعض الوثائق عند غزوها للكويت. وكان أهم ما في الوثيقة هي الحاشية التي خطها بيده الشيخ جابر إلى ولي عهده الشيخ سعد العبدالله السالم الصباح، رئيس الوفد الكويتي، الذي سيتوجه إلى جدة للتفاوض مع الوفد العراقي، وكانت بها بعض التوجيهات التي يجب عليه أن يتقيد بها ولا يخرج عنها