مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

التخطيط للحرب بالاشتراك مع قوة عظمى (تابع)

          ويشير معظم الدراسات التي نشرت عن حرب الخليج، وما أكثرها، إلى أن أحداثها تنقسم إلـى مرحلتين منفصلتين: الأولى، مرحلة دفاعية استمرت من أغسطس حتى نوفمبر 1990، عندما كـان الاهتمام منصبّاً على الدفاع عن المملكة. والثانية، مرحلة هجومية لتحرير الكويت بدأت بإعلان الرئيس بوش في الثامن من نوفمبر أنه سيضاعف عدد القوات الأمريكية في الخليج.

          إن مثل هذا التصنيف يجانب الصواب إلى حدٍّ بعيد، إذ ليس هناك خط واضح يفصل بين الدفاع والهجوم في الحرب، فالمراحل تتداخل تخطيطاً وتنفيذاً. وتشير التقارير إلى أنه منذ غزو صدّام الكويت واتخاذ خادم الحرمين الشريفين قراره التاريخي استدعاء القوات الشقيقة والصديقة، عكف المخطِّطون العسكريون في البنتاجون وفي القيادة المركزية، على إعداد إستراتيجية هجومية. واشتملت هذه الإستراتيجية، منذ البداية، على استخدام القوة الجوية الساحقة، ليس ضد القوات العراقية في الكويت فحسب، بل داخل العراق كذلك. وأن يشمل القصف مراكز القيادة السياسية والعسكرية في بغداد ومراكز القيادة والسيطرة والاتصالات، والدفاعات الجوية، وقوات الحرس الجمهوري المتميزة، والصناعات العسكرية، وشبكات الطاقة، ومصافي البترول، والطرق البرية، والجسور، والسكك الحديدية، ومرافق النقل الأخرى، أي تدمير "مراكز الثقل" في العراق وهو تعبير عسكري شاع استخدامه في ذلك الوقت.

          لم نشترك في إعداد تلك الخطة، ولم نُخطَر بها رسمياً، ولم تتضح معالمها إلاّ في شهر سبتمبر. ولم يمضِ وقت طويل حتى أدرك العالم حقيقة التفكير الأمريكي، عندما صرح الفريق أول مايكل دوجان michael dugan، رئيس أركان القوات الجوية الأمريكية، للصحفيين في طريق عودته جواً من الرياض، في منتصف سبتمبر، أن هدف الحملة الجوية سيكون شل القيادة العراقية في بغداد ولم تؤدِّ إقالته من منصبه، بسبب زلّة لسانه، إلاّ إلى تأكيد صدق مقولته.

          اتسم إعداد الولايات المتحدة لخطة هجومية ضد العراق منذ البداية، بقدرٍ من الحذر الزائد، وهو أمرٌ صائبٌ من الوجهة العسكرية التي تفرض ضرورة إعداد خطط عمليات لمواجهة أسوأ الاحتمالات. ولكن إعداد هذه الخطة لا يعني، في حال من الأحوال، أن الولايات المتحدة كانت تسعى إلى الحرب منذ المراحل الأولى للأزمة. ويعزو بعض المسئولين العسكريين سبب الحفاظ على سرِّية الخطة الهجومية وإقالة دوجان، إلى أن الولايات المتحدة كانت تأمل في التوصل إلى تسوية سياسية للأزمة، ولم تشأ أن تفسِد الجهود الدبلوماسية بالإفصاح عن التخطيط الهجومي.

          وعلى كل حال، فإن نظرتنا إلى الأمور في المملكة، كانت مختلفة إلى حدٍّ ما. ففي أول الغزو، عندما كان احتمال هجوم عراقي ضدنا قائماً، انصرف جلّ اهتمامنا إلى الدفاع عن أنفسنا، وبالتالي كانت أوضاع قواتنا وانتشارها دفاعية صرفة. وأوضحت في فصل سابق، كيف كنّا معرضين للهجوم من قوات متفوقة عدداً وعدة، والإجراءات التي اتخذناها على عجل لحماية أنفسنا. كانت القوات الجوية الملكية، قبل وصول القوات الأمريكية، هي السلاح الوحيد الفعّال لدينا. وعلى الرغم من أنها لم تتدرب على مواجهة العراق إلاّ أنها وضِعَتْ في حالة تأهب قصوى. كانت طائراتنا من نوع تورنيدو وf-5 وf-15 مسلحةً وجاهزة للإقلاع. وكانت طائرات التزوُّد بالوقود تنتظر في قواعدها، وطائرات الإنذار المبكر ( أواكس ) تحلِّق في الجو على مدار الساعة. فعقِب ساعات قليلة من الغزو، أصبحت قواتنا الجوية جاهزة للتصدي لأي تهديد من جانب صدّام ولكن، هل كان في وسعنا أن ندحر هجوماً عراقياً؟ ذاك سؤال يصعب التكهن بالإجابة عنه، لكننا كنّا، دون شك، سنبلي بلاءً حسناً، ونجعل صداماً يدفع ثمناً غالياً لعدوانه.

          كان أول تحدِّ تواجهه قواتنا الجوية، فضلاً عن ترقب الهجوم العراقي، هو الوصول المفاجئ للطائرات الكويتية. إذ نجح جزء من تلك الطائرات في الفرار من القاعدة الجوية الشمالية في الكويت في اليوم الأول للغزو، بينما وصل أكثرها في اليوم الثاني من القاعدة الجنوبية. ويدل وصول هذه الطائرات على أن العراق كان بطيئاً في فرض سيطرته الكاملة على الكويت استقبلنا معظم تلك الطائرات في قاعدة الملك عبد العزيز الجوية في أولاً، ثم نقلناها إلى قاعدة الملك فهد الجوية في الطائف وقاعدة الملك خالد الجوية في الجنوبية، نظراً إلى حاجتنا إلى استخدام قاعدة الملك عبد العزيز الجوية في الشرقية. كما نجح بعض الطائرات العمودية الكويتية في الهبوط بسلام في المطارات السعودية القريبة، كرأس مشعاب، بينما تحطم البعض الآخر أو فُقِدَ في الصحراء، إثر الفوضى والارتباك في عملية الخروج من الكويت

          لعل سردي هذه التفاصيل يوضح الفرق بين موقفنا وموقف الولايات المتحدة في تلك الفترة نفسها. فبينما نحن نسابق الزمن لترتيب دفاعاتنا، واستقبال بقايا القوات المسلحة الكويتية، إضافة إلى سيل عرم من اللاجئين المدنيين، كانت الولايات المتحدة قد أكملت، بحلول يوم 25 أغسطس، التخطيط لحملة هجومية على أربع مراحل، شملت: حملة جوية إستراتيجية ضد العراق وحملة جوية ضد القوات العراقية في الكويت والقضاء على قوات الحرس الجمهوري وعزل ميدان المعركة في الكويت وأخيراً شنّ هجوم بري لطرد القوات العراقية من الكويت وكانت هذه الخطة المبدئية هي نفسها التي تبنّاها التحالف في النهاية

          كان الفرق بين موقفنا وموقف الأمريكيين، في تلك الأسابيع الأولى من الأزمة، كما يبدو لي من استقراء الأحداث، يعكس اختلافاً في وجهتيْ نظرنا إلى أهداف الحرب. فأهدافنا المباشرة، التي كان يشاركنا فيها حلفاؤنا العرب، هي التصدي للعدوان العراقي،وإزالة المخاطر التي تهدِّد أمْننا، وإعادة الأوضاع في دولة الكويت ومنطقة الخليج إلى ما كانت عليه قبل عدوان صدّام وما من شك في أننا كنّا نرحِّب بالإطاحة بصدام بعد أن اتضحت خطورته، ولكننا لم نكن نرغب في تدمير العراق شعباً ودولة. فعلى الرغم من نزاعنا مع قائده، إلاّ أننا نَعُدّه بلداً شقيقاً قدمنا إليه مساعدات جمة خلال حربه على إيران، كما أننا لا ننكر أن له دوراً بارزاً في المنطقة، كثقل موازن لكل من إيران وإسرائيل.

          أمّا أهداف الولايات المتحدة من الحرب، فبدت لنا على النقيض من ذلك. كان هدفها ضمان تدفق البترول العربي، الذي يُعد مورداً إستراتيجياً وحيوياً للغرب، وحماية أمن إسرائيل والقضاء على تهديد صدّام للوضع السياسي القائم في الخليج، وأخيراً تأكيد السيادة الأمريكية العالمية. والحق يقال، كان الرئيس بوش والشعب الأمريكي يشعرون بالظلم الذي وقع على الكويت جرَّاء الغزو العراقي، ومن ثَم كان توجُّههم واضحاً إلى نصرة ما اعتبروه "قضية عادلة".

          وإن تداخلت أهدافنا وأهداف من الحرب، إلاّ أنها لم تكن متطابقة تماماً. ففي بداية الأمر، كنا نرغب في احتواء العراق وحل الأزمة دبلوماسياً، بينما كانت الولايات المتحدة ترغب في تدمير قوته العسكرية. ولكننا اقتنعنا تدريجياً بأهمية الحد من قدرة العراق على شنّ الحرب، بعد أن ازدادت حدّة تهديدات صدّام للمملكة، وبعد أن تأكد لنا أنه لم يكن ينوي الخروج من الكويت بطريقة سلمية.

          كانت منشآت الأسلحة النووية والبيولوجية والكيماوية العراقية، وكذلك منشآت إنتاج الصواريخ الباليستية من أُولى الأهداف التي تم التخطيط لتدميرها، بمعنى تدمير قدرة العراق على صنع أسلحة الدمار الشامل واستخدامها. وكانت إسرائيل منذ مدة، تُلِح على حليفتها، الولايات المتحدة، في تدمير تلك المنشآت العراقية، وتُهدد بأنها ستقوم بتدميرها بنفسها إذا تقاعست الولايات المتحدة عن ذلك. لقد نجحت الدبلوماسية الإسرائيلية في إقناع الولايات المتحدة، ومعظم دول العالم الغربي، بأن قنابل إسرائيل النووية وأسلحتها الكيماوية وصواريخها البعيدة المدى التي ظلت سيفاً مصلتاً على رقاب العرب عشرات السنين، ليست سوى أسلحة مشروعة للدفاع عن النفس، بينما تُوصَم أية محاولة عربية بدائية لتحقيق أدنى قَدْر من الردع بأنها تهديد "للعالم المتحضر".! وبدا واضحاً من إصرار الولايات المتحدة على تدمير منشآت الأسلحة النووية والبيولوجية والكيماوية لدى العراق والضجة التي أثيرت حول البرنامج النووي العراقي، أن واشنطن وبدافع الرغبة في الحفاظ على مصالحها كقوة عظمى، كانت حريصة على نزع الفتيل من منطقة سريعة الاشتعال بمنع انتشار أسلحة الدمار الشامل.

          ولا مراء أننا كنّا، بالمثل، نتطلع إلى تدمير المنشآت النووية والبيولوجية والكيماوية العراقية، بعد أن أقَدم صدّام على غزو الكويت وتكشفت لنا نواياه العدوانية التوسعية. إذ أصبح برنامجه النووي تهديداً مباشراً لنا أيضاً. وكنَّا معرضين للخطر تماماً، إذ لم تكن لدينا وسائل ردْع فعالة، وثروتنا الاقتصادية مُجَمّعة في ، ومعظم سكان المملكة يتمركزون في تجمعات سكانية معدودة. إنه ليحزنني ويحز في نفسي، بصفتي عربياً، أن أعترف بأن عدوان صدّام على الكويت وتصريحاته وأحاديثه التي كانت تقطُر حقداً وعدواناً، جعلتنا نَعُدّه خطراً، لا يقلّ شَرَه عن إسرائيل وأن الحرب هيأت لنا فرصة سانحة للتخلص من خطره وتهديده. ذلك كان الخيار المؤلم الذي أجْبَرَنا عليه طيش صدّام وحماقته.

سابق بداية الصفحة تالي