إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / منظمات وأحلاف وتكتلات / حلف بغداد (الحلف المركزي CENTO)









المبحث الرابع

المبحث الرابع

مكونات الحلف ونشاطه

أولاً: التمهيد لعقد الحلف:

    اتسمت المباحثات، بين الولايات المتحدة الأمريكية، والدول المتاخمة للاتحاد السوفيتي، في الشرق الأوسط وغربي آسيا ـ بثنائية مظهرها. إلاّ أن ثنائيتها، اقتصرت على ما يتعلق منها بالمعونات والإمدادات العسكرية؛ إذ انطوت على تشجيع حلف دفاعي، متعدد الأطراف، معادٍ للسوفيت، تموله واشنطن.

1. الاتفاق الباكستاني ـ التركي:

ومع الأشهر الأولى من عام 1954، اكتسبت المبادرة الأمريكية، على امتداد "الحزام الشمالي"، حظاً وافراً؛ على الرغم من تنكر مصر لها، ومعارضة الهند لما يتعلق منها بتسليح باكستان. فأعيد تنصيب شاه إيران وتسليحه، لحماية بلاده، الموالية لواشنطن؛ والعراق يسعى إلى معونة عسكرية أمريكية؛ والمملكة العربية السعودية، توشك أن تتوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة الأمريكية، في شأن الأسلحة.

أمّا باكستان، التي أُعلن، في ديسمبر 1953، تحوُّلها إلى "دولة إسلامية" ـ فتحمست للمعونة الأمريكية، بالشروط الأمريكية. فهلّلت واشنطن لذلك؛ إذ إن باكستان "الإسلامية"، التي تعززها المساعدات الأمريكية، العسكرية والاقتصادية، يمكنها أن تقود الدول العربية، بعيداً عن المعسكر المحايد، إلى المعسكر الغربي؛ خاصة أن نفوذها، المتنامي في العالم العربي "ربما بات ينافس حتى نفوذ مصر؛ فمع سكان يناهزون الثمانين مليوناً، ويكوّنون شعوباً ذات قدرات عسكرية بارزة، ونزعات نحو النوع الغربي من التطور المادي؛ ما يجعلها مرشحة للنهوض بدور قوة إسلامية قائدة".

وسرعان ما أعلنت باكستان، في 19 فبراير 1954، عزمها على عقد معاهدة مع تركيا؛ وصفها رئيس الوزراء الباكستاني، محمد علي، بأنها، "في المقام الأول، اتفاقية للتعاون الودي، الذي لا يلزم الدولتَين بالتزامات دفاعية رسمية". وبعد ثلاثة أيام (22 فبراير 1954)، طلبت باكستان أسلحة، بموجب تصريح الأمن المتبادل الأمريكي. فأقر أيزنهاور الطلب الباكستاني، في 25 فبراير 1954. وفي مقابلة مع "الصنداي تايمز"، دعا وزير الخارجية الباكستاني، ظفرالله خان، في 14 مارس 1954، الدول "ذات التفكير المماثل" لأن تنتهج النهج التركي ـ الباكستاني، الذي سيأخذ شكله الرسمي، في 2 أبريل 1954، بتوقيع معاهدة الدعم المتبادل بين البدلين. وتمادت باكستان في اندفاعها، فزار وزير خارجيتها مصر، لإقناعها بالتخلي عن دورها، في الدفاع عن المنطقة، لتضطلع به كراتشي. ولكن، خاب سعيه.

2. المباحثات العراقية ـ الأمريكية:

انطلق رجال تركيا وباكستان، في رحلات مستمرة إلى الدول العربية، ينشرون الدعاية لميثاقهم ويحاولون إغراء بعض حكوماتها به. فقوبلوا بالصد؛ وشذت حكومة بغداد وحدها؛ إذ رغبت في الانضمام إليه. وتكشف وثائق الخارجية الأمريكية النقاب فأجرى السفير الأمريكي لدى بغداد بيري، مباحثات، في 22 فبراير 1954، مع الملك فيصل؛ ووليّ العهد، عبد الإله؛ ورئيس الوزراء العراقي، نوري السعيد، في خصوص طلب العراق مساعدات عسكرية أمريكية، كمنحة، استعداداً للانضمام إلى الحلف التركي ـ الباكستاني … ووافقت الولايات المتحدة الأمريكية على ذلك.

وفي 22 مارس 1954 أذيع، في واشنطن، "أنه اتٌّفق على ضم حكومة العراق إلى الحلف التركي ـ الباكستاني، مقابل مد الولايات المتحدة الأمريكية لها بالسلاح". وأنكر رئيس الوزراء العراقي، الدكتور محمد فاضل الجمالي، تلك التصريحات، وتنصل منها. إلاّ أن زيارة الملك فيصل إلى باكستان، في 12 مارس 1954، أي قبل أن تذيع واشنطن ما أذاعته بعشرة أيام، جاءت مؤيدة لها. واللافت في تلك الزيارة الرسمية مشاركة نوري السعيد فيها (ولم يكن يتقلد منصباً في الدولة)، وسفره مع الملك، بدلاً من رئيس الوزراء، أو وزير الخارجية، اللذَين كان يجب أن يصحباه.

واغتنم نوري السعيد الزيارة، فتحدث إلى الصحافة الباكستانية، مؤيداً الميثاق المعقود بين تركيا وباكستان، فقال: "إن الكتلة الجديدة، ستكون أقوى ما عرفه الشرق الأوسط". وفي 24 مارس، عقد رئيس الحكومة العراقية، الدكتور محمد فاضل الجمالي، مؤتمراً صحفياً، فأعاد ما كان قاله، وأكد أن العراق، لم يُدعَ إلى المشاركة في الحلف، ولم يشترك فيه. وقال عن سفر نوري السعيد مع الملك، إنه ذهب للدراسة، ولم يفوض عقد أي اتفاق.

3. اجتماع مجلس الجامعة:

اجتمع مجلس جامعة الدول العربية، في دورة غير عادية، في 26 مارس 1954، للنظر في الحلف التركي ـ الباكستاني. وأكد العراق، في الاجتماع، عدم اعتزامه المشاركة في هذا الحلف .. كما نفى إزماعه عقد اتفاق للتعاون العسكري مع حكومة الولايات المتحدة الأمريكية. وأذاعت جامعة الدول العربية بياناً رسمياً، في شأن ذلك، في الأول من أبريل 1954؛ لم يلقَ أي ارتياح في واشنطن، التي لا تزال تطمع في انضمام الدول العربية إلى أحلافها.

4. غضب الولايات المتحدة الأمريكية:

فوجئت حكومة واشنطن بتصريحات العراق، في اجتماع مجلس جامعة الدول العربية، التي أثارتها، فأخرجتها عن دبلوماسيتها، في وصف موقف حكومة العراق. فقد أرسل جون فوستر دالاس، وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية، إلى سفيره لدى العراق، بيرتون بيري، بتعليمات واضحة، في خصوص الحلف التركي ـ الباكستاني، واتفاقية المساعدة العسكرية، قال فيها:

"لقد تزايد قلقنا، باطراد، من الموقف الجبان، الذي تقفه الحكومة العراقية، في شأن اقتراحنا الخاص باتفاقية المساعدة العسكرية. وقد عزّز هذا القلق، إلى حدّ بعيد، بيان الجامعة العربية، الذي أصدرته في الأول من أبريل، في القاهرة، والذي ينص في جزء منه على ما يلي: "إن المسألة الأولى، التي بحثتها اللجنة، تتعلق بالشائعات، التي ترددت، مؤخراً، عن إمكان انضمام إحدى الدول العربية إلى الحلف التركي ـ الباكستاني؛ وما يتعلق باحتمال توقيع اتفاقية للتعاون العسكري، قريباً، بين دول عربية، من ناحية، والولايات المتحدة الأمريكية، من ناحية أخرى. إن جميع ممثلي الدول العربية في اللجنة، يعلنون أن هذه الشائعات زائفة، ولا أساس لها من الصحة. أمّا فيما يتعلق بالحلف التركي ـ الباكستاني، فإن الممثل العراقي، قد أكد، باسم حكومته، ما أعلنه رئيس مجلس الوزراء العراقي، وهو أن العراق، لم يُدعَ للانضمام إلى هذه الحلف؛ وأنه لم يبحث الانضمام إليه؛ وأن كل شيء، قيل في شأن صلة العراق بهذا الحلف، لا أساس له".

إن الحكومة العراقية، تفتقر إلى الشجاعة الضرورية، وإلى الثقة بالذات، لتنفيذ البرنامج الدفاعي الملائم، وإتباع السياسات الضرورية للدفاع عن المنطقة.

وأبرق السفير الأمريكي لدى بغداد، في 16 أبريل 1954، إلى وزارة الخارجية الأمريكية، قائلاً:

"لقد فشلت السفارة ... في إقناع وزارة الخارجية العراقية، بمدى أهمية اتفاقية التعاون العسكري الثنائية، الأمريكية ... إن الاتفاقية هي الحجر الأساسي لبنيان، نشيده في الشرق الأوسط، قادر على وقف تقدم الشيوعية ... ومن طريق نفوذنا، الذي نمارسه ممارسة متزايدة على العراقيين، الذين يصرون على الارتباط بنا على نحو أوثق، سنتمكن من جذب انتباههم إلى التركيز في أخطار الشيوعية، والحاجة إلى محاربة هذا الخطر، عبر الإصلاح الداخلي. إن هذا التناول، إذ طبق بمهارة ودأب، يمكن أن يحطم الحلقة العربية العدائية، المحيطة بإسرائيل، ويضمن لها، بالتعاون معها، البقاء السلمي.

إن سحب العرض الأمريكي للمساعدة العسكرية للعراق، سيسفر، محلياً ... عن تكذيب للاعتقاد بضرورة تفهّم أكبر لوجهات النظر العربية، وهو الاعتقاد، الذي كان قد ازدهر، بعد زيارة الوزير دالاس إلى المنطقة .. وليس من شأن هذا النبأ، إلاّ أن يزيد من إحباط وتيقظ رئيس الوزراء (العراقي)، محمد فاضل الجمالي، الذي كان قد رحّب، من البداية، بالاتفاقية وقبِلها؛ ولم يطلب إلاّ تغيير في الصياغة ـ لزيادة قدرته على بيعها للرأي العام. ومن ثَم، فإنني أخشى أن يستقيل، بعد وقت قصير؛ وبذلك، فإننا سنفقد أشد زعماء العرب على الشيوعية، وأكثر المسؤولين العراقيين اقتناعاً بالرغبة في تعاون عربي مع الغرب.

ومن المحتمل أن يخلفه، كرئيس للوزراء، واحد من "العصابة القومية"[1]. وستتيح هذه الفرصة ... بزوغ مصالح القوميين والشيوعيين، في جبهة مشتركة، وبداية الحكم بواسطة أعمال الغوغاء ...".

وأتبَع بيري برقيته بأخرى، في 18 أبريل 1954، قائلاً[2]:

"زرت، صباح اليوم، رئيس الوزراء، الجمالي. وأبلغته أنني تلقيت تعليمات بوقف المفاوضات، مؤقتاً، في شأن اتفاقية التعاون العسكري. وقلت له إنني أفترض، أن واشنطن في صدد عملية إعادة نظر أساسية للمسألة برمتها.

وأضفت أنني أخمن، أن بيان الجامعة العربية، الصادر في الأول من أبريل؛ وقد تلوته عليه، لحظتها ـ له شأن بالأمر. وقد يبدو أن الوقت ملائم ليبادر العراق إلى التشاور مع تركيا وباكستان، وتحديد ما إذا كان يرغب، أو لا يرغب، في ربط نفسه، بشكل مُرض، باتفاق التعاون المتبادل، قبل أن نحاول اللجوء إلى تحرك آخر، في تفاهمنا العسكري معه.

وقال رئيس الوزراء (العراقي)، إنه لا يوجد شيء يستطيع قوله، رداً على ذلك، سوى "أننا نخسر الوقت". ولم يعقب على اقتراحي، أن يسعى للتباحث مع تركيا وباكستان.

إنه حينما أصبح رئيساً للوزراء، طوّر ثلاثة مجالات، لمحاربة الشيوعية في العراق. وهي:

أ. تطوير التنظيم والاستقرار السياسيين.

ب. تطوير البلاد.

ج. تطوير القدرات الدفاعية، مع التحالفات الدولية، اللازمة لهذه الغاية. ذلك، فقد عقب بأنه يميل إلى الاعتقاد، أننا نحمِّل بيان القاهرة أكثر مما ينبغي ... ومع ذلك، فإنه يشعر أن قرار وقف المفاوضات، لم يصدر بسبب هذا البيان، ولا بسبب الإجراء، الذي اتخذته الجامعة العربية، ولا نتيجة لأحداث محلية؛ إنما صدر عن "تيارات مشؤومة"، في واشنطن، تحت ضغوط إسرائيلية".

5. الرياض تنذر القاهرة:

كانت الرياض، هي الأحرص على تتبّع تحركات بغداد؛ فضلاً عن صِلاتها القوية بما يجري في دمشق وبيروت وعمّان.

وبدأت تترى رسائل الملك سعود إلى جمال عبدالناصر. وكانت أولاها في 17 مايو 1954، تُعلمه أن:

"حكومة العراق، أعلنت، أمس، أنها قبلت عرضاً من الحكومة الأمريكية، بتزويدها وإمدادها المساعدات العسكرية؛ وأن هذا جاء نتيجة لقبول العراق أن ينضم لحلف تركيا ـ باكستان، الذي يفترض أن تنضم إليه بلاد الشرق الأوسط جميعاً ... فما هو الرأي في هذا الموقف؟ وما هي التدابير، التي يمكن بها الحيلولة دون تحقيق هذه الغاية، سواء بالمفاهمة مع الحكومة العراقية، أو بالدعاية لدى الشعب العراقي؟ ... ونعتقد أن الدافع لهذا، هو الضغط الأمريكي ـ الإنجليزي، للتفاهم مع إسرائيل".

وما لبث السفير السعودي لدى القاهرة، أن قابل الرئيس جمال عبدالناصر، تنفيذاً لتعليمات الملك سعود، القائلة:

"قابِل السيد الرئيس جمال عبدالناصر. وأخبره ... أن قبول العراق بعدم استعمال السلاح ضد إسرائيل، التي لا يوجد عدو غيرها للعرب، لما يدل على خروجهم (أي العراقيين) عن الضمان الجماعي، وخروجهم عن الضمانات، التي التزموا بها، كسائر الدول العربية. وربما يكون وراء هذه الخطوة، ما هو أعظم منها، وهو انضمام العراق إلى الحلف الباكستاني، والسَّير وراء المستعمِر لتحقيق مصالحه".

وأيقن جمال عبدالناصر، أن غاية السياسة الأمريكية، هي تقييد المنطقة بسياسة الأحلاف؛ فضلاً عن تطويق مصر، لتصبح وحيدة في مواجهة إسرائيل.

6. محاولة التطويق:

فناصر كل مناوأة لتلك السياسة؛ فأيد أحزاب المعارضة العراقية، التي وجهت تحذيراً إلى نوري السعيد، من عواقب الانضمام إلى الحلف العسكري، الموقع بين باكستان وتركيا؛ لكونه حلفاً، لا يخدم مصالح الأمة العربية. وحذر الرئيس المصري حكومة العراق، من الانضمام إلى حلف غير عربي.

7. محاولة تطويق مصر:

ولكنه فوجئ، في 9 سبتمبر 1954، بخطوتَين، غرب الحدود المصرية، حيث وقعت الحكومة الليبية، برئاسة مصطفى بن حليم، اتفاقاً عسكرياً، منح الولايات المتحدة الأمريكية قاعدة ضخمة، في طرابلس؛ واتفاقية دفاع مشترك، بين ليبيا وتركيا. وكان معنى ذلك، أن الخطوة الأولى، في محاولة تطويق مصر، قد بدأت على حدودها الغربية؛ إذ أصبح على أرض ليبيا قاعدتان أجنبيتان؛ إحداهما أمريكية، في طرابلس؛ والثانية بريطانية، في بنغازي. ناهيك من أن ليبيا نفسها، باتت ترتبط، على نحو أو آخر، بالحلف التركي ـ الباكستاني؛ لارتباطها باتفاقية دفاع مشترك مع تركيا.

8. مؤتمر "سرسنك"[3]:

وأوفدت الحكومة المصرية، في 15 أغسطس 1954، وفداً، على مستوى عالٍ، برئاسة صلاح سالم، عضو مجلس قيادة الثورة المصرية، إلى العراق حيث التقى، في "سرسنك"، في الموصل، رئيس الحكومة العراقية، نوري السعيد؛ وشاكر الوادي، وزير الخارجية العراقية، بالنيابة؛ ورفيق عارف، رئيس هيئة الأركان العامة العراقية.

وخلال المحادثات، أعلن رئيس الوفد، أن مصر أطلعت حكومات الغرب، على وجهة نظرها في مشروع الدفاع عن البلاد العربية؛ فهي ترى أن الدفاع عنها، يجب أن يتولاه العرب بأنفسهم؛ وأن يُبنى على ميثاق الضمان الجماعي.

وقال نوري السعيد، إن العراق حريص على استقلاله؛ غير أنه في حاجة إلى صداقة تركيا، خوفاً على الموصل ونفطها؛ وعلى صداقة إيران كذلك، اتقاءً لمطامعها في بعض المناطق، على الحدود بين البلدين. ثم طالب بتوسيع نطاق ميثاق الضمان الجماعي، ليشمل باكستان؛ وأن تعقد دول الميثاق اتفاقاً عسكرياً مع بريطانيا؛ لكي تمده بالأسلحة وتتعاون معه؛ وأن ينشأ اتحاد بين دمشق وبغداد، يتيح للعراق بلوغ البحر الأبيض المتوسط. واقترح استشارة الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، في المشروع، قبل بتّه، تعزيزاً لميثاق الضمان الجماعي العربي.

ورد صلاح سالم، بأن مصر لا تعارض الاتحاد بين سورية والعراق. ولكنها ترى استحالة انضمام باكستان إلى الميثاق؛ لأن الدول العربية، هي المخصوصة به. وكذلك الاتفاق مع بريطانيا، هو مستحيل؛ لأنه يجعل العرب تابعين لها. أمّا استشارة واشنطن ولندن، فمعناها طلب موافقتهما، مما لا ترضاه مصر، ولا الدول العربية الأخرى.

9. مؤتمر القاهرة:

وإزاء ما استعصى على الطرفَين حلّه، فقد اتفقا على تأجيل المفاوضات، حتى زيارة نوري السعيد القاهرة. وفي 14 سبتمبر، وصل رئيس وزراء العراق إلى العاصمة المصرية، حيث استقبله الرئيس جمال عبدالناصر في مكتبه، في اليوم نفسه. إلاّ أن محادثات القاهرة، لم تكن أوفر حظاً من تلك التي شهدتها سرسنك؛ إذ دار الطرفان في حلقة مفرغة.

10. مشروع جديد يطرحه نوري السعيد:

أمعن نوري السعيد في تنفيذ سياسته، على الرغم من المعارضة العربية؛ فزار لندن، في 23 سبتمبر 1954، حيث طلب من سلوين لويد، وزير الدولة البريطاني للشؤون الخارجية، إقرار مشروع، كان حمله معه إلى العاصمة البريطانية، ويتلخص في:

أ. ربط ميثاق الضمان الجماعي العربي ربطاً وثيقاً بالدول الغربية.

ب. تزويد الحكومات العربية بالأسلحة والمعدات الكافية.

ج.  تولّي تلك الدول تدريب الجيوش العربية.

هلّلت بريطانيا للمشروع العراقي، واستكملته باتفاق مع رئيس الوزراء العراقي، يقضي بالإسراع في عقد ميثاق بين تركيا والعراق، تنضم إليه، فيما بعد، إيران وباكستان وإنجلترا نفسها.

11. محادثات نوري السعيد في أنقرة:

وفي عودته من لندن إلى بغداد، عرّج نوري السعيد، في 10 أكتوبر 1954، على أنقرة، حيث عقد سلسلة من المحادثات مع عدنان مندريس، رئيس الحكومة التركية.

أعلن نوري السعيد، في أنقرة، أن أمن العراق وسلامته مرتبطان بأمن جارتَيه تركيا وإيران وسلامتهما. أمّا نظيره التركي، فأعلن أن تركيا عازمة كل العزم على تأمين الدفاع عن المنطقة، التي توجد فيها دول الجامعة العربية، وإنشاء تعاون تركي ـ عربي فيها.

وأعرب الطرفان، في ختام محادثاتهما، عن اتفاقهما على:

أ. ارتباط أمن العراق بتعاونه مع جارتَيه؛ وتعاون جميع الدول العربية مع إيران وباكستان.

ب. مراودة مصر، خلال اجتماعات تركيا والعراق المقبلة معها، على أن تكون عضواً في وحدة العمل المزمع إتمامه؛ وإلاّ فسيبذلان المساعي، لتأمين اشتراكهما في إعداد مشروع الاتفاق، على أن تصبح القاهرة، فيما بعد، عضواً فيه.

ج. استمرار الاتصال بين العراق وتركيا، للبحث في المساعي، التي سيبذلانها نحو سورية وإيران وباكستان.

د. مناهضة الدعاية، الشيوعية والصهيونية

هـ. توسيع التعاون الاقتصادي، بين العراق وتركيا؛ ووضع الاتفاقَين، الاقتصادي والثقافي، الموقعَين بينهما عام 1946، موضع التنفيذ.

واختتمت الزيارة بصدور بيان، في 15 أكتوبر 1954، يوضح أن المباحثات، تناولت تنظيم الأمن في الشرق الأوسط، وعقد اتفاق، يتضمن تعهداً، يقضي بالتعاون على صد أي اعتداء، قد يقع عليهما، من داخل المنطقة أومن خارجها، وتأسيس جبهة أمن مشتركة، ومتماسكة، في مواجهة أولئك الذين يهدفون إلى الاستيلاء على المنطقة والتحكم في شؤونها.

12. الإجراءات العراقية:

وطّأ نوري السعيد لتنفيذ سياسته؛ بزيارة بعض العواصم، العربية والغربية. وقطع، في 14 يناير 1955، علاقات العراق الدبلوماسية بالاتحاد السوفيتي. أمّا على الصعيد الداخلي، فقد أصدر، عام 1954، عدة مراسيم، أبرزها:

أ. المرسوم الرقم 16، الذي يقضي بالحبس، لمدة لا تقل عن خمس سنوات، لكل من يعتنق أو يروج أيّاً من المبادئ الهدامة، من المذاهب الاشتراكية والبلشفية أو الشيوعية أو الفوضوية والإباحية، الرامية إلى تغيير نظام الحكم؛ وقد تصل هذه العقوبات إلى الحبس المؤبد، بل الإعدام، إذ كان مروجها من أفراد القوات المسلحة.

ب. المرسوم الرقم 17، الذي أباح مجلس الوزراء إسقاط الجنسية العراقية، عن الذين تثبت المحاكم إدانتهم بالشيوعية.

ج. مرسوم النقابات العامة، الرقم 18، الذي خوّل مجلس الوزراء حق إغلاق أي نقابة، حينما يصبح سلوكها يمس الأمن العام.

د. مرسوم الجمعيات، الرقم 19، الذي فوض إلى وزير الداخلية، بموجب المادة 25 منه، إلغاء جميع الجمعيات والنوادي ودُور التمثيل، المجازة في العراق.

هـ. مرسوم المطبوعات، الذي ألغيت بموجبه إجازات الجرائد والمجلات، الممنوحة سابقاً؛ على أن يتقدم أصحابها بطلبات جديدة، لحيازة امتيازات جديدة.

ناهيك بأنه عمد إلى حل الأحزاب العراقية؛ ليمكّن الموالين لسياسته من دخول البرلمان الجديد.

13. مؤتمر وزراء الخارجية العرب، وقراراته:

أثارت مواقف نوري السعيد وتصريحاته، ضجة عنيفة في العالم العربي، ما حمل الجامعة العربية، على توجيه دعوة إلى وزراء خارجية الحكومات العربية (اللجنة السياسية). فاجتمع في القاهرة، في 22 ديسمبر 1954، وزراء خارجية مصر وسورية والمملكة العربية السعودية ولبنان والأردن وليبيا؛ ومثل بغداد في هذا الاجتماع برهان الدين، كبير موظفي وزارة الخارجية العراقية. وقرروا:

أ. تعاون الدول العربية مع الغرب، بعد حل القضايا العربية المعلقة، وعلى أساس تقوية ميثاق الضمان الجماعي؛ وتزويد العرب بالسلاح؛ لأن في ذلك حماية لمصالحهم.

ب. امتناع الدول العربية عن عقد أي حلف، خارج نطاق ميثاق الجامعة، والضمان الجماعي.

ج. التمنع عن الانضمام إلى الحلف العراقي ـ التركي المزمع.

وسجّل ممثل العراق، من هذا القرار، التحفظ الآتي:

"إن العراق، مع تأكيد التزاماته بميثاق جامعة الدول العربية، وميثاق الضمان الجماعي، يحتفظ بحق اتخاذ أي إجراءات إضافية، من أجل ضمان سلامته".

ثانياً: تكوين حلف بغداد:

1. إعلان بغداد:

وصل عدنان مندريس، رئيس وزراء تركيا، فجأة، في 12 يناير 1955، إلى بغداد، حيث أعلن أن تركيا والعراق، قررا عقد اتفاق عسكري بينهما، يرمي إلى "تحقيق التعاون، وكفالة الاستقرار والأمن في الشرق الأوسط؛ ويدعو الحكومات العربية للدخول فيه".

فانطلقت، في سورية، في 15 يناير، مظاهرات عنيفة، قادها حزب "البعث" السوري، ضد سياسة الأحلاف. وأصدرت أحزاب المعارضة العراقية بياناً، تعارض فيه انضمام العراق إلى حلف غربي. ووجّه الملك سعود، من الرياض، نداء إلى نوري السعيد، يناشده فيه الإبقاء على وحدة العرب.

2. مصر تدعو إلى مؤتمر رؤساء الحكومات:

وقررت مصر، أن تدعو رؤساء الحكومات العربية، إلى اجتماع عاجل، يعقد يوم السبت، 22 يناير، في مقر الجامعة العربية لبحث موضوع انفراد العراق بالانضمام إلى حلف عسكري، خارج إطار الدول العربية، ما يهدد كيان تلك الجامعة. وأعلنت الحكومة المصرية، في بيان الدعوة، أنها لا تزال تؤمن بالتعاون مع العرب جميعاً، وبعيداً عن النفوذ الأجنبي، المتمثل في سياسة الأحلاف. وردّ نوري السعيد، من بغداد، بأنه لن يحضر اجتماع رؤساء الحكومات العربية، بدعوى أنه تدخّل في شؤون العراق الداخلية وحجْر على استقلاله وحريته في التصرف.

    وانعقد المؤتمر في موعده. واستمر انعقاده إلى 6 فبراير 1955؛ إلاّ أنه لم يستطع الوصول إلى نتيجة.

وقبل ساعة واحدة من موعد الجلسة الأولى، تلقى جمال عبدالناصر، رئيس وفد مصر، ورئيس المؤتمر، برقية من نوري السعيد، تتضمن اعتذاره عن عدم الحضور، بسبب مرضه.

ودخل الوفد اللبناني إلى قاعة الجلسة، يحمل رسالة من الرئيس كميل شمعون، رئيس الجمهورية اللبنانية، إلى المؤتمر، تفيد بأنه علم بغياب نوري السعيد، وأنه بعث إليه مقترحاً تفويض حضور الاجتماع، بدلاً منه، إلى وزير خارجيته، السيد فاضل الجمالي.

وبعد التداول، تقرر الموافقة على اقتراح كميل شمعون. وبعد مشاورات واتصالات، وصل وزير خارجية العراق، فاضل الجمالي، إلى مصر، على رأس وفد المملكة العراقية، وعضوية برهان الدين باش أعيان، وزير الدولة للشؤون الخارجية، ونجيب الراوي، سفير المملكة العراقية لدى مصر. وحضر جلسات المؤتمر، ابتداءً من الجلسة الثامنة حتى نهاية الجلسات، ليقول إنه ليس مفوضاً إليه أكثر من إبلاغ المؤتمرين وجهة نظر العراق، الذي من حقه، أن يحدد بنفسه نوع الأخطار، التي تهدده، وأن يكون حرّاً في عقد اتفاق مع من يشاء من أطراف، وكما يشاء، وأن العراق مع تأكيد التزاماته بميثاق جامعة الدول العربية ومعاهدة الدفاع المشترك بين دول الجامعة العربية، يحتفظ بحق اتخاذ أي إجراءات إضافية من أجل ضمان سلامته.

ولم يسفر المؤتمر، بعد خمس عشرة جلسة عن شيء؛ ولكن محاور الحركة في العالم العربي، تحددت فيه تحديداً قاطعاً. وأصدر مجلس الجامعة، في 8 فبراير 1955، البيان الختامي للاجتماع: "ترتكز السياسة الخارجية للدول العربية، على ميثاق الجامعة العربية، ومعاهدة الدفاع المشترك، والتعاون الاقتصادي بين الدول العربية، وميثاق الأمم المتحدة؛ ولا تقر عقد أحلاف غير ذلك" (أُنظر ملحق محاضر جلسات مؤتمر رؤساء الحكومات العربية خلال الفترة من 22 يناير حتى 8 فبراير 1955).

3. ميثاق التعاون المتبادل بين العراق وتركيا:

    اطَّرح نوري السعيد كل المساعي العربية، الرامية إلى تأجيل توقيع الميثاق، مراعاة للمصلحة، واستجابة لنداء الشعوب العربية. وفي 22 فبراير 1955، وصل بغداد وفد تركي، برئاسة عدنان مندريس، رئيس الوزراء؛ وفؤاد كوبرللو، وزير خارجية تركيا. واجتمع إلى الوفد العراقي المفوض، والمؤلف من أحمد بابان، نائب رئيس الوزراء؛ وبرهان الدين باش أعيان، وزير الدولة للشؤون الخارجية؛ وإبراهيم عاكف الألوسي، سفير العراق لدى أنقرة، وبعض كبار موظفي وزارة الخارجية. وفي 24 فبراير 1955، وُقِّع ميثاق التعاون المتبادل بين العراق وتركيا. وأعلن أن نصه، سينشر في بغداد وأنقرة، في 26 منه.(أُنظر ملحق الميثاق التركي ـ العراقي)

    وفي اليوم الموعود، وعلى أثر فوز الميثاق بموافقة 112 نائباً عراقياً عليه، ومعارضة 4 نواب فقط؛ وموافقة 25 عيناً من مجلس الأعيان، ومعارضة عين واحد، هو الشيخ محمد رضا الشبيبي؛ وبعد إجماع مجلس الأعيان التركي عليه، ونيل الميثاق موافقة 449 مندوباً، هم الذين حضروا جلسة المجلس ـ أعلن ميثاق التعاون المتبادل، بين تركيا والعراق؛ وغايته صيانة سلامتهما والدفاع عن كيانيهما. وحددت مدته بخمس سنوات، قابلة للتجديد

    وفي 3 أبريل عام 1955، وصل إلي بغداد وكيل وزارة الخارجية البريطانية ومعه مقترحات إيدن حول عقد الاتفاق الخاص ليحل محل معاهدة عام 1930 (أُنظر ملحق صك الانتداب البريطاني على العراق) و (ملحق المعاهدة العراقية ـ البريطانية الأولى المبرمة في العاشر من أكتوبر 1922م الموافق 19 من صفر 1341هـ) و(ملحق المعاهدة العراقية ـ البريطانية الثانية المعقودة في بغداد، في 13 يناير سنة 1926م الموافق 28 جمادى الآخرة سنة 1344هـ) و(ملحق المعاهدة البريطانية ـ العراقية الجديدة التي وُقِّعت في لندن، في 14 ديسمبر 1927 ميلادية، ونشرت في 20 منه؛ ولم تعرض على مجلس الأمة، فلم تبرم) و(ملحق المعاهدة العراقية ـ البريطانية المعقودة في بغداد، في 30 يونيه 1930) و(ملحق الاتفاقية العدلية الموقعة في بغداد، في 4 مارس 1931).

4. التهافت على الميثاق:

سرعان ما تجاوز الميثاق ثنائيته، ليصبح، في 4 أبريل 1955، ثلاثياً، حين وُقع انضمام بريطانيا إليه، في بغداد كلٌّ من رئيس الوزراء العراقي، نوري السعيد؛ ووزير الدولة للشؤون الخارجية، برهان الدين باش أعيان؛ عن الحكومة العراقية؛ ومايكل رايت، سفير بريطانيا لدى بغداد؛ والكولونيل هيوتر ترفتن، وكيل وزارة الخارجية؛ عن الحكومة البريطانية. وعلى أثر ذلك، أصبح الميثاق يعرف باسم "حلف بغداد" (أُنظر ملحق المعاهدة الإنجليزية ـ العراقية، سنة 1955).

وتلت باكستان بريطانيا، في 23 سبتمبر 1955، حين قدّم شعيب قريشي الوزير الباكستاني المفوض لدى العراق، وثيقة انضمام بلاده إلى الحلف، الذي أضحى رباعياً؛ ما يخوّله، وفقاً لأحكام المادة السادسة من الميثاق، إنشاء مجلس دائم. وأمسى الحلف في 3 نوفمبر 1955، خماسياً، بعد انضمام إيران إليه.

أمّا الولايات المتحدة الأمريكية، فقد اكتفت بدور المراقب، في إجراءات اجتماع مجلس حلف بغداد، وفي لجنته الدائمة، السياسية والعسكرية. وانضمت، عام 1957، إلى اللجنة العسكرية وسواها، كلجنة مقاومة المبادئ الهدامة، ولجنة الاتصال (الإعلام).



[1] السفير بيري يقصد بالعصابة القومية ثورة رشيد الكيلاني التي سيطرت على العراق في أبريل 1941 وتولى فيها الكيلاني رئاسة الوزارة، وكان زعيما يحظى باحترام الجماهير العراقية بسبب دعوته إلى سياسة حيادية للعراق بين بريطانيا ودول المحور، وبسبب نزعته القومية العربية القوية. وفي بداية هذه الثورة اضطر رجل الإنجليز الأول في العراق آنذاك الأمير عبدالإله الوصي على العرش إلى الفرار في سيارة الوزير المفوض الأمريكي في بغداد. وقد لعبت القوات البريطانية، مع `الفيلق العربي` الذي كان يقوده جلوب باشا الدور الأكبر في إخماد الثورة وإعادة عبدالإله.

[2] وثائق الخارجية الأمريكية، وثيقة رقم 1412، برقية مرسل من السفير بيرتون بيري برقم 624 بتاريخ 18 أبريل 1954 إلى المستر بايرود مساعد وزير الخارجية الأمريكي. تبين من ملفات وزارة الخارجية أن ثمة برقية أخرى غير منشورة ضمن هذه الوثائق، تحمل رقم 584 بتاريخ 17 أبريل 1954، صادرة من وزارة الخارجية إلى سفيرها في بغداد بيري. ويفترض وفقا لهذا التاريخ أن تكون قد أرسلت إلى السفير قبل يوم واحد من برقيته الأخيرة التي أوردنا نصها والتي تحمل تاريخ 18 أبريل. وربما يكون فارق التوقيت بين واشنطن وبغداد قد لعب دوره في تأخير وصول برقية تحمل تاريخ يوم ما إلى اليوم التالي، وبعد أن كان السفير قد بعث فعلاً ببرقيته. المهم أن برقية الخارجية الأمريكية رقم 584 حملت إليه تعليمات بأن يوقف تنفيذ الأمر الصادر إليه في البرقية رقم 577- الخاص بوقف مفاوضات المساعدات العسكرية الأمريكية للعراق مؤقتاً- لحين تلقي إشعار آخر. وبادر السفير بيري إلى إرسال برقية أخرى من بغداد برقم 625 في اليوم نفسه- أي 18 أبريل-  لاحقة لبرقيته التي شرح فيها فحوى مقابلته مع الجمالي. وقد أبلغ وزارة الخارجية بأنه تحادث هاتفياً مع رئيس الوزراء العراقي وطلب منه أن يعتبر الحوار الذي دار بينهما أمراً شخصياً وسرياً إلى أن يتمكن- أي السفير- من التحدث إليه من أخرى.

[3] تقع منطقة سرسنك في الموصل مصيف يصطاف فيه الملك فيصل ورجال الحكومة العراقية وكبار المسؤولين.